الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **
ثبت في صحيح البخارى: عن أنس قال: آلى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من نسائه، وكانت انفكت رجلُه، فأقام في مَشْرُبَةٍ له تِسعاً وعشرين ليلة، ثم نزل، فقالُوا: يا رسَولَ الله: آليتَ شهراً، فقال: (إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعاً وعِشْرِينَ)، وقد قال سبحانه: الإيلاء: لغة: الامتناع باليمين، وخُصَّ في عرف الشرع بالامتناعِ باليمينِ مِن وطء الزوجة، ولهذا عُدّىَ فعلُه بأداة (من) تضميناً له، معنى (يمتنعون) من نسائهم، وهو أحسنُ من إقامةِ (من) مقام (عَلَى)، وجعل سبحانه للأزواج مُدَّةَ أربعة أشهر يمتنعونَ فيها مِن وطء نسائهم بالإيلاء، فإذا مضت فإما أن يَفىء، وإما أن يُطلِّق، وفد اشتهر عن على، وابنِ عباس، أن الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضي، كما وقع لِرسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه، وظاهرُ القرآن مع الجمهور. وقد تناظر في هذه المسألة محمد بنُ سيرين، ورجل آخر، فاحتج على محمد بقول على، فاحتج عليه محمد بالآية، فسكت. وقد دلت الآية على أحكام. منها: هذا. ومنها: أن من حلف على ترك الوطء أقلَّ من أربعة أشهر لم يكن مؤلياً، وهذا قولُ الجمهور، وفيه قول شاذ، أنه مؤل. ومنها: أنه لا يثبت له حكم الإيلاء حتى يَحْلِفَ على أكثر من أربعة أشهر، فإن كانت مدة الامتناع أربعة أشهر، لم يثبت له حكمُ الإيلاء، لأن الله جعل لهم مدةَ أربعة أشهر، وبعدَ انقضائها إما أن يُطلِّقوا، وإما أن يفيؤوا، وهذا قولُ الجمهور، منهم، أحمد، والشافعى، ومالك، وجعله أبو حنيفة مؤلياً بأربعة أشهر سواء، وهذا بناء على أصله أن المدةَ المضروبة أجلٌ لوقوع الطلاق بانقضائها، والجمهور يجعلون المدة أجلاً لاستحقاق المطالبة، وهذا موضع اختلف فيه السلفُ من الصحابة رضى الله عنهم والتابعين ومَنْ بعدهم، فقال الشافعى، حدثنا سفيانَ، عن يحيى ابن سعيد، عن سليمانَ بن يسار، قال: أدركتُ بضعة عشرَ رجلاً مِن الصحابة، كلهم يُوقِفُ المؤلى. يعنى: بعد أربعةِ أشهر. وروى سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، قال: سألتُ اثنى عشر رجلاً مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن المؤلى، فقالوا: ليس عليه شىء حتى تمضىَ أربعةُ أشهر. وهذا قولُ الجمهور مِن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم. وقال عبد الله بن مسعود، وزيدُ بن ثابت: إذا مضت أربعة أشهر ولم يفىء فيها، طلقت منه بمضيها، وهذا قولُ جماعةٍ من التابعين، وقولُ أبى حنيفة وأصحابه، فعند هؤلاء يستحِقُّ المطالبة قبل مضى الأربعة الأشهر، فإن فاء وإلا طلقت بمضيها. وعند الجمهور، لا يستحق المطالبة حتى تمضى الأربعة الأشهر، فحينئذ يقال: إما أن تفىء، وإما أن تُطلق، وإن لم يفىء، أُخِذَ بإيقاع الطلاق، إما بالحاكم، وإما بحبسه حتى يطلِّق. قال الموقعون للطلاق بمضى المدة: آية الإيلاء تدل على ذلك من ثلاثة أوجه. أحدها: أن عبدَ الله بن مسعود قرأ: الثانى: أن الله سبحانه جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر، فلو كانت الفيئةُ بعدها، لزادت على مدة النص، وذلك غيرُ جائز. الثالث: أنه لو وطئها في مدة الإيلاء، لوقعت الفيئةُ موقِعَها، فدل على استحقاق الفيئة فيها. قالوا: ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لهم تربصَ أربعة أشهر، ثم قال: قال الجمهور: لنا مِن آية الإيلاء عشرة أدلة. أحدها: أنه أضاف مدة الإيلاء إلى الأزواج، وجعلَها لهم، ولم يجعلها عليهم، فوجبَ ألا يستحق المطالبة فيها، بل بعدَها، كأجلِ الدَّين، ومن أوجبَ المطالبةَ فيها لم يكن عنده أجلاً لهم، ولا يُعقل كونها أجلاً لهم، ويستحق عليهم فيها المطالبة. الدليل الثانى: قوله: فإن قيل: فاء التعقيب تُوجب أن يكونَ بعد الإيلاء لا بعدَ المدة؟ قيل: قَد تقدَّمَ في الآية ذكر الإيلاء، ثم تلاه ذكر المدة، ثم أعقبها بذكر الفيئة، فإذا أوجبت الفاءُ التعقيبُ بعد ما تقدم ذكرُه، لم يجز أن يعود إلى أبعدِ المذكورين، ووجب عودُها إليهما أو إلى أقربهما. الدليل الثالث: قوله: الدليل الرابع: أن الله سبحانه خيَّره في الآية بين أمرين: الفيئةِ أو الطلاقِ، والتخييرُ بين أمرين لا يكون إلا في حالة واحدة كالكفارات، ولو كان في حالتين، لكانتا ترتيباً لا تخييراً، وإذا تقرر هذا، فالفيئة عندكم في نفس المدة، وعزمُ الطلاق بانقضاء المدة، فلم يقع التخييرُ في حالة واحدة. فإن قيل: هو مخيَّر بين أن يفىء في المدة، وبين أن يترك الفيئة، فيكون عازماً للطلاق بمضى المدة. قيل: ترك الفيئة لا يكون عزماً للطلاق وإنما يكون عزماً عندكم إذا انقضت المدة، فلا يتأتَّى التخييرُ بين عزم الطلاق وبين الفيئة البتة، فإنه بمضى المدة يقع الطلاق عندكم، فلا يُمكنه الفيئة، وفى المدة يمكنه الفيئة، ولم يحضر وقتُ عزم الطلاق الذي هو مضى المدة، وحينئذ فهذا دليل خامس مستقل. الدليل السادس: أن التخيير بين أمرين يقتضى أن يكون فِعلُهما، إليه ليصح منه اختيارُ فعل كل منهما وتركه، وإلا لبطل حكمُ خياره، ومضى المدة ليس إليه. الدليل السابع: أنه سبحانه قال: الدليل الثامن: أنه لو قال لغريمه: لك أجلُ أربعة أشهر، فإن وفيتنى قبلتُ منك، وإن لم تُوفنى حبستُك، كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة لا فيها، ولا يَعْقِلُ المخاطبُ غيرَ هذا. فإن قيل: ما نحن فيه نظيرُ قوله: لك الخيار ثلاثة أيام فإن فسخت البيع وإلا لزمك، ومعلومٌ أن الفسخَ إنما يقع في الثلاث لا بعدها؟ قيل: هذا من أقوى حُججنا عليكم فإن موجبَ العقد اللزومُ، فجعل له الخيار في مدة ثلاثة أيام، فإذا انقضت ولم يفسخ عاد العقدُ إلى حكمه وهو اللزومُ وهكذا الزوجة لها حقٌّ على الزوج في الوطء كما له حقٌّ عليها، قال تعالى: الدليل العاشر: أنه سبحانه جعل للمؤلين شيئاً، وعليهم شيئين، فالذى لهم تربُّصُ المدة المذكورة، والذي عليهم إما الفيئةُ وإما الطلاقُ، وعندكم ليس عليهم إلا الفيئةُ فقط، وأما الطلاقُ، فليس عليهم، بل ولا إليهم، وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة، فيُحكم بطلاقها عقيب انقضاء المدة شاء أو أبى، ومعلوم أن هذا ليس إلى المؤلى ولا عليه، وهو خلافُ ظاهر النص. قالوا: ولأنها يمين باللَّه تعالى توجب الكفارةَ. فلم يقع بها الطلاق كسائر الأيمان، ولأنها مدة قدرها الشرعُ، لم تتقدمها الفرقة، فلا يقع بها بينونة، كأجل العنِّين، ولأنه لفظ لا يَصِحُّ أن يقع به الطلاق المعجَّل، فلم يقع به المؤجَّلُ كالظهار، ولأن الإيلاء كان طلاقاً في الجاهلية، فنسخ كالظهار، فلا يجوز أن يقع به الطلاق لأنه استيفاءٌ للحكم المنسوخ، ولما كان عليه أهلُ الجاهلية. قال الشافعى: كانت الفِرَقُ الجاهلية تَحلِفُ بثلاثة أشياء: بالطَّلاق، والظِّهار، والإيلاء، فنقل الله سبحانه وتعالى الإيلاء والظِّهار عما كانا عليه في الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقَّر عليه حكمُهما في الشرع، وبقى حكمُ الطلاق على ما كان عليه، هذا لفظه. قالوا: ولأن الطلاقَ إنما يقع بالصريح والكناية، وليس الإيلاء واحداً منهما، إذ لو كان صريحاً، لوقع معجَّلاً إن أطلقه، أو إلى أجل مسمَّى إن قيَّده، ولو كان كنايةٍ، لرجع فيه إلى نيته، ولا يَرِدُ على هذا اللعان، فإنه يُوجب الفسخَ دونَ الطلاق، والفسخُ يقع بغير قول، والطلاقُ لا يقع إلا بالقول. قالوا: وأما قراءةُ ابن مسعود، فغايتُها أن تدُلَّ على جواز الفيئة في مدة التربُّص، لا على استحقاقِ المطالبة بها في المدة، وهذا حقٌّ لا ننكِرُه. وأما قولُكم: جوازُ الفيئة في المدة دليلٌ على استحقاقها فيها، فهو باطل بالدَّيْنِ المؤجَّلِ. وأما قولُكم: إنه لو كانت الفيئة بعد المدة، لزادت على أربعة أشهر، فليس بصحيح، لأن الأربعة أشهر مدة لزمن الصبرِ الذي لا يستحِقُّ فيه المطالبة، فبمجرد انقضائها يستحِقُّ عليه الحقُّ، فلها أن تعجِّل المطالبة به. وإمَّا أن تُنْظِرَه، وهذا كسائِرِ الحقوق المعلَّقة بآجال معدودة، إنما تُستحق عند انقضاء آجالها، ولا يُقال: إن ذلك يستلزِمُ الزيادةَ على الأجل، فكذا أجلُ الإيلاء سواء. ودلت الآية على أن كلَّ مَنْ صحَّ منه الإيلاء بأىِّ يمين حلف، فهو مؤلٍ حتى يَبَرَّ، إما أن يفىءَ، وإما أن يُطلِّقَ، فكان في هذا حجةٌ لما ذهب إليه مَن يقول مِن السلف والخلفِ: إن المؤلى باليمين بالطلاق، إما أن يفىء، وإما أن يطلِّقَ. ومن يُلزمه الطلاق على كل حال لم يُمكنه إدخال هذه اليمين في حكم الإيلاء، فإنه إذا قال: إن وطئتك إلى سنة، فأنت طالق ثلاثاً، فإذا مضت أربعةُ أشهر لا يقولون له: إما أن تطأ، وإما أن تُطلِّقَ، بل يقولون له: إن وطئتها طلقت، وإن لم تطأها، طلقنا عليك، وأكثرُهم لا يُمكنه من الإيلاج لوقوع النزع الذي هو جزء الوطء في أجنبية، ولا جواب عن هذا إلا أن يقال: بأنه غير مؤل، وحينئذ فيقال: فلا تُوقفوه بعد مضى الأربعة الاشهر، وقولوا: إن له أن يمتنع مِن وطئها بيمينِ الطلاق دائماً، فإن ضربتم له الأجل، أثبتم له حكم الإيلاء مِن غير يمين، وإن جعلتموه مؤلياً ولم تجيزوه، خالفتم حكم الإيلاء، وموجب النص، فهذا بعضُ حجج هؤلاء على منازعيهم. فإن قيل: فما حكمُ هذه المسألة، وهى إذا قال: إن وطئتُك، فأنتِ طالق ثلاثاً. قيل: اختلف الفقهاءُ فيها، هل يكون مؤلياً أم لا؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، وقولان للشافعى في الجديد: بأنه يكون مؤلياً، وهو مذهب أبى حنيفة، ومالك. وعلى القولين: فهل يُمكَّنُ مِن الإيلاجِ؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد والشافعى. أحدهما: أنه لا يُمكن منه، بل يحرمُ عليه، لأنها بالإيلاج تطلق عندهم ثلاثاً، فيصيرُ ما بعد الإيلاج محرماً، فيكون الإيلاج محرماً، وهذا كالصائم إذا تيقن أنه لم يبق إلى طلوع الفجر إلا قدر إيلاج الذكر دون إخراجه، حَرُمَ عليه الإيلاجُ، وإن كان في زمن الإباحة، لوجود الإخراج في زمن الحظر، كذلك ها هنا يحرُم عليه الإيلاجُ، وإن كان قبل الطلاق لوجود الإخراج بعده. والثانى: أنه لا يحرم عليه الإيلاج، قال الماوردى: وهو قولُ سائر أصحابنا، لأنها زوجته، ولا يحرم عليه الإخراج، لأنه ترك. وإن طلقت بالإيلاج، ويكون المحرمُ بهذا الوطء استدامة الإيلاج لا الابتداء والنزع، وهذا ظاهر نص الشافعى، فإنه قال: لو طلع الفجرُ على الصائم وهو مجامع وأخرجه مكانَه كان على صومه، فإن مكث بغير إخراجه، أفطر، ويكفِّرُ. وقال في كتاب الإيلاء: ولو قال: إن وطئتُك، فأنتِ طالق ثلاثاً، وقف، فإن فاء، فإذا غيَّب الحشفة، طلقت منه ثلاثاً، فإن أخرجه ثم أدخله، فعليه مهرُ مثلها. قال هؤلاء: ويدل على الجواز أن رجلاً لو قال لرجل: ادخل دارى، ولا تقم، استباح الدخول لوجوده عن إذن، ووجب عليه الخروجُ لمنعه من المقام، ويكون الخروجُ وإن كان في زمن الحظر مباحاً، لأنه تركٌ، كذلك هذا المؤلى يستبيحُ أن يولج، ويستبيحُ أن ينزع، ويحرم عليه استدامةُ الإيلاج، والخلاف في الإيلاج قبل الفجر والنزع بعده للصائم، كالخلاف في المؤلى، وقيل: يحرم على الصائم الإيلاج قبل الفجر، ولا يحرم على المؤلى، والفرق أن التحريم قد يطرأ على الصائم بغير الإيلاج، فجاز أن يحرُمَ عليه الإيلاج، والمؤلى لا يطرأ عليه التحريم بغير الإيلاج، فافترقا. وقالت طائفة ثالثة: لا يحرُمٌُ عليه الوطءُ، ولا تطلُق عليه الزوجةُ، بل يُوقف، ويقال له: ما أمر الله إما أن تفىء، وإما أن تُطلق. قالوا: وكيف يكون مؤلياً ولا يُمكن من الفيئة، بل يلزم بالطلاق، وإن مكن منها، وقع به الطلاق، فالطلاق واقع به على التقديرين مع كونه مؤلياً؟ فهذا خلافُ ظاهرِ القرآن، بل يقال لهذا: إن فاء لم يقع به الطلاقُ، وإن لم يفىء، أُلزِمَ بالطلاق،. وهذا مذهبُ من يرى اليمينَ بالطلاق لا يُوجب طلاقاً، وإنما يُجزئه بكفارة يمين، وهو قولُ أهل الظاهر، وطاووس، وعكرمة، وجماعة من أهل الحديث؟ واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه. وثبت في (الصحيحين): من حديث سهل بن سعد، أن عُوَيْمِراً العجلانىَّ قال لِعَاصم بن عدى: أَرأَيتَ لو أن رجلاً وَجَدَ مَعَ امرأتِهِ رجلاً أَيقتُلُه فتقتُلُونه، أم كيف يفعلُ؟ فسل لى رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فسألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فكره رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَسَائِلَ وعَابَها، حتى كَبْرَ على عاصمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثم إن عويمراً سأل رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (قَدْ نَزَلَ فيكَ وفى صاحِبَتِكَ، فاذْهَبْ، فَأْتِ بِهَا، فَتَلاَعَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَا قال: كذبتُ عَلَيْهَا يا رسولَ اللَّهِ إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثاً قَبْلَ أَن يأمُرَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قال الزهرىُّ: فكانت تِلْكَ سنةَ بالمتلاعِنْينِ. قال سهل: وكانت حَامِلاً، وكان ابنُهَا يُنْسَبُ إلى أمه، ثم جرت السُّنةُ أَن يَرِثَها وتَرِثَ مِنْهُ ما فَرَضَ اللَّهُ لها. وفى لفظ: فتلاعنا في المسجد، ففارقها عندَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (ذاكُم التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْن). وقولُ سهل: وكانت حاملاً إلى آخره، هو عند البخارى مِن قول الزهرى، وللبخارى: ثم قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (انْظُرُوا فَإنْ جَاءتْ بِه أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَيْنَيْنِ عَظيمَ الألْيَتَيْن، خَدَلَّج السَّاقَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِراً إلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وإِنْ جَاءتْ بهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وحْرَةٌ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِراً إلاَّ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا)، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعتَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر. وفى لفظ: وكانت حَامِلاً، فأنكر حملَها. وفى صحيح مسلم: من حديث ابن عمر، أن فلانَ بنَ فلان، قال: يا رسولَ اللَّهِ، أرأيتَ لو وجد أحدُنا امرأتَه على فاحِشةٍ، كيف يصنعُ، إن تكلم، تكلَّم بأمر عظيم، وإن سكت، سَكَتَ على مِثْل ذلِكَ؟ فسكت النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُجِبْهُ، فلما كان بعدَ ذلك، أتاه فقال: (إنَّ الذي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابتُلِيتُ بِهِ)، فأنزلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ هؤلاءِ الآيات في سُورَةِ النُّورِ: وفى (الصحيحين) عنه، قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم للمتُلاعنين: (حِسَابُكُما عَلى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا)، قال: يا رسولَ اللَّهِ، مالى؟ قال: لاَ مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِن فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا). وفى لفظ لهما: فرَّق رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ، وقال: واللَّهِ إِن أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تائِبٌ)؟. وفيهما عنه: أن رجلاً لاعَنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ففرَّقَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وألحق الولد بأمِّه. وفى صحيح مسلم: من حديث ابن مسعود رضى الله عنه في قِصةِ المتلاعنين، فشهد الرجلُ أربعَ شهادات باللَّه إنَّهُ لَمِنَ الصادقين، ثم لعن الخامسةَ أنَّ لعنةَ اللَّهِ عليه إن كانَ مِنَ الكَاذِبينَ، فذهبتْ لتلعنَ، فقال لها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَهْ) فَأَبَتْ، فَلَعَنَتْ، فلما أدبرا، قال: لَعَلَّهَا أَنْ تَجِىءَ بهِ أَسْوَدَ جَعْدَاً)، فجاءتْ بهِ أسْوَدَ جَعْداً. وفى (صحيح مسلم) من حديث أنس بن مالك، أن هِلالَ بن أمية قذف امرأته بِشَرِيك بْنِ سَحْمَاء، وكان أخا البرَاءِ بنِ مالك لأمِّه، وكان أوَّلَ رجلٍ لاعن في الإسلام، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (أَبْصِرُوهَا فإنْ جَاءتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبطاً قضىءَ العَيْنَيْنِ، فَهُوَ لهلال بْن أُمَيَّة، وَإنْ جَاءتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْداً حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابن سَحْمَاء، قال: فأُنبئتُ أَنها جاءت به أكحلَ جعداً حَمْش السَّاقين. وفى (الصحيحين): من حديث ابن عباس نحوُ هذه القصة، فقال له، رجل: أهى المرأةُ التي قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لَوْ رَجَمْتُ أَحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هذِهِ)، فقال ابنُ عباس: لا، تِلْكَ امرأَة كانت تُظْهِرُ في الإسْلامِ السُّوءَ. ولأبى داود في هذا الحديث عن ابن عباس: ففرَّق رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُما وقضى أن لا يُدعى ولدُها لأب، ولا تُرمى، ولا يُرمى ولدُها ومَنْ رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضَى ألاَّ بَيْتَ لها عليه، ولا قوت من أجل أنهما يتفرَّقان مِن غير طلاق، ولا متوفى عنها. وفى القصة قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يُدعى لأب. وذكر البخارى: أن هلالَ بن أمية قذف امرأتهُ عند رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بشريكِ بن سَحْمَاء، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ)، فقال: يا رسولَ اللَّهِ: إذا رأى أحدُنا على امرأتِه رجلاً ينطلِقُ يلتمِسُ البينة؟ فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (البَيِّنَةُ وإلاَّ حَدٌّ في ظَهْرِكَ)، فقال: والذي بعثك بالحق إنى لصَادِق، وليُنْزِلَنَّ اللَّهُ ما يُبرِّىءُ ظَهْرِى مِن الحَدِّ، فنزلَ جبريلُ عليه السلام، وأنزل عليه: وفى (الصحيحين): أن سعدَ بنَ عُبادة، قال: يا رسولَ اللَّهِ، أرأيتَ الرَّجُلَ يَجِدُ مع امرأتِهِ رجلاً أيقتلُه؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لا)، فقال سَعْدٌ: بلَى والذي بعثك بالحقِّ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اسْمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم): وفى لفظٍ آخَرَ: يا رسولَ اللَّهِ، إن وجدتُ مع امرأتى رجلاً أُمْهِلُه حتى آتىَ بأربعة شهداء؟ قال: (نعم). وفى لفظ آخر: لو وجَدْتُ مع أَهْلى رجلاً لم أهجْهُ حَتَّى آتىَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (نعم)، قال: كلاَّ والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ نَبياًّ إِنْ كُنْتُ لأُعاجلُهُ بالسَّيْفِ قَبْلِ ذلِكَ، قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اسْمَعوا إلى ما يقُولُ سَيِّدُكُم إِنَّه لَغَيُورٌ وأَنَا أغْيَرُ مِنْهُ، واللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى). وفى لَفْظٍ: (لو رأيتُ مَعَ امرأتى رجلاً لضربتُه بالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، واللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى، ومِنْ أَجْلِ ذلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ، ولا شَخْصَ أَغٌيَرُ مِنَ اللَّه، ولا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بَعَثَ اللَّهُ المُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذَرِينَ، ولا شخص أحَبُّ إلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ). واستُفيدَ من هذا الحكم النبوىِّ عدَةُ أحكام. الحكم الأول: أن اللعانَ يَصِحُّ من كل زوجين سواءً كانا مسلمين أو كافريْنِ، عدلين فاسقْينِ محدودين في قذف، أو غير محدودين، أو أحدهما كذلك، قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور: جميعُ الأزواج يلتعِنُونَ، الحُر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، والعبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، والمسلم من اليهودية والنصرانية، وهذا قول مالك وإسحاق وقولُ سعيد بن المسيب، والحسن، وربيعة، وسليمان بن يسار. وذهب أهلُ الرأى، والأوزاعى، والثورى، وجماعة إلى أن اللِّعان لا يكون إلا بينَ زوجينِ مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف، وهو روايةٌ عن أحمد. ومأخذ القولين: أن اللعان يجمع وصفين، اليمينَ والشهادةَ، وقد سماه الله سبحانه شهادةً، وسماه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يميناً حيث يقول: (لَوْلاَ الأيمَانُ، لَكَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ)، فمن غلَّب عليه حُكم الأيمان قال: يَصِحُّ مِن كل من يصح يمينه: قالوا: ولعموم قوله تعالى: قال الآخرون: قال الله تعالى: أحدها: أنه سبحانه استثنى أنفسَهم مِن الشهادة، وهذا استثناءُ متَّصِلٌ قطعاً، ولهذا جاء مرفوعاً. والثانى: أنه صرح بأن التعانَهم شهادة، ثم زاد سبحانه هذا بياناً، فقال: والثالث: أنه جعله بدلاً من الشهود، وقائماً مقامَهم عند عدمهم. قالوا: وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ لِعَانَ بَيْنَ مَمْلُوكَيْنِ وَلاَ كَافِرَيْنِ)، ذكره أبو عمر بن عبد البر في (التمهيد). وذكر الدارقطنى من حديثه أيضاً، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: (أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ: لَيْسَ بَيْنَ الحُرِّ والأمةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الحُرَّةِ والعَبْدِ لِعَانٌ، ولَيْسَ بَيْنَ المُسْلِم وَاليَهُودِيَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ المُسْلِمِ والنَّصْرَانِيَّةِ لِعَانٌ). وذكر عبد الرزاق في (مصنفه)، عن ابن شهاب، قال: من وصية النبى صلى الله عليه وسلم لِعتَّاب بن أَسِيد: أن لا لِعان بين أربع، فذكر معناه. قالوا: ولأن اللَّعانَ جُعِلَ بدلَ الشهادة، وقائماً مقامَها عند عدمها، فَلا يَصِحُّ إلا ممن تصح منه، ولهذا تُحدُّ المرأة بِلعان الزَّوج، ونُكولها تنزيلاً لللِعانه منزلةَ أربعةِ شهود. قالُوا: وأما الحديثُ: (لولا مَا مَضَى مِنَ الأيْمَانِ، لَكَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ)، فالمحفوظ فيه: لولا ما مضى من كتاب الله، هذا لفظ البخارى في (صحيحه). وأما قوله: لَوْلاَ مَا مَضَى مِنَ الأَيْمَانِ، فمن رواية عباد ابن منصور، وقد تكلم فيه غير واحد. قال يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال على بن الحسين بن الجنيد الرازى: متروك قدرى. وقال النسائي: ضعيف. وقد استقرت قاعدة الشريعة أن البينةَ على المدَّعي، واليمينَ على المدَّعَى عليه، والزوج ها هنا مُدَّعٍ، فلِعانُه شهادة، ولو كان يميناً لم تُشرع في جانبه. قال الأولون: أما تسميتُه شهادةً، فلِقول الملتعِنِ في يمينه: أشهد باللَّه، فسمى بذلك شهادة، وإن كان يميناً اعتباراً بلفظها. قالوا: وكيف وهو مصرَّح فيه بالقسم وجوابه، وكذلك لو قال: أشهد باللَّهِ، انعقدت يمينُه فبذلك، سواء نوى اليمينَ أو أطلق، والعربُ تَعُدُّ ذلك يميناً في لغتها واستعمالها. قال قيس: فَأَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّى أُحِبُّهَا فَهذَا لَهَا عِنْدِى فَمَا عِنْدَهَا لِيَا وفى هذا حجة لمن قال: إن قوله: (أشهد) تنعقِد به اليمين، ولو لم يقُلْ: باللَّهِ، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية، لا يكون يميناً إلا بالنيةِ، وهو قولُ الأكثرين. كما أن قوله: أشهد باللَّه يمين عند الأكثرين بمطلقة. قالوا: وأما استثناؤُه سبحانه أنفسَهم مِن الشهداء، فيقال أولاً: (إلا) ها هنا: صفة بمعنى غير، والمعنى: ولم يكن لهم شهداء غيرُ أنفسهم، فإن (غيراً)، و(وإلاَّ) يتعارضان الوصفية والاستثناء، فيُستثنى بـ (غير) حملاً على (إلاَّ)، ويُوصف بـ (إلاَّ) حملاً على (غير). ويقال ثانياً: إن (أنفسهم) مستثنى من الشهداء، ولكن يجوز أن يكون منقطعاً على لغة بنى تميم، فإنهم يُبذلون في الانقطاع، كما يُبْدِل أهلُ الحجاز وهم في الاتصال. ويقال ثالثاً: إنما استثنى (أنفسهم) من الشهداء لأنه نزَّلهم منزلتهم في قبول قولهم، وهذا قوى جداً على قول من يرجم المرأة بالتعان الزوج إذا نكلت وهو الصحيح، كما يأتى تقريره إن شاء الله تعالى. والصحيح: أن لعانهم يجمع الوصفين، اليمين والشهادة، فهو شهادة مؤكَّدة بالقسم والتكرار، ويمين مغلَّظة بلفظ الشهادة والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الأمر. ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع. أحدها: ذكر لفظ الشهادة. الثانى: ذكر القسم بأحد أسماءِ الربّ سبحانه وأجمعها لمعانى أسمائه الحسنى، وهو اسم الله جَلَّ ذِكرُه. الثالث: تأكيدُ الجواب بِما يُؤكِّد به المقسم عليه، من (إن، واللام)، وإتيانه باسم الفاعل الذي هو صادق وكاذب دون الفعل الذي هو صدق وكذب. الرابع: تكرارُ ذلك أربع مرات. الخامس: دعاؤه على نفسه في الخامسة بلعنة الله إن كان من الكاذبين. السادس: إخبارُه عند الخامسة أنها الموجِبةُ لعذاب الله، وهو إما الحدُّ أو الحبسُ، وجعل لعانها دارئاً للعذاب عنها. الثامن: أن هذا اللعان يُوجب العذاب على أحدهما إما في الدنيا، وإما في الآخرة. التاسع: التفريقُ بين المتلاعنين، وخرابُ بيتها، وكسرها بالفراق. العاشرُ: تأبيد تلك الفرقة ودوام التحريم بينهما، فلما كان شأنُ هذا اللعانِ هذا الشأن، جُعِلَ يميناً مقروناً بالشهادة، وشهادة مقرونة باليمين، وجعل الملتعن لقبول قوله كالشاهد، فإن نكلت المرأةُ، مضت شهادته وحُدِّتْ، وأفادت شهادتُه ويمينهُ شيئين: سقوط الحد عنه، ووجوبه عليها. وإن التعنت المرأة وعارضت لعانه بلعان آخر منها، أفاد لعانُه سقوطَ الحد عنه دون وجبه عليها، فكان شهادة ويميناً بالنسبة إليه دونها، لأنه إن كان يميناً محضة فهى لا تحدُّ بمجرد حلفه، وإن كان شهادة فلا تحدُّ بمجرد شهادته عليها وحده. فإذا انضم إلى ذلك نكولُها، قوىَ جانبُ الشهادة واليمين في حقِّه بتأكُّدهِ ونكولها، فكان دليلاً ظاهراً على صدقة، فأسقط الحد عنه، وأوجبه عليها، وهذا أحسنُ ما يكون من الحكم، ومن أَحْسنُ من اللَّهِ حكماً لِقوم يُوقِنُونَ، وقد ظهر بهذا أنه يمين فيها معنى الشهادة، وشهادةٌ فيها معنى اليمين. وأما حديثُ عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، فما أبينَ دلالته لو كان صحيحاً بوصوله إلى عمرو، ولكن في طريقه إلى عمرو مَهالكُ ومفاوز. قال أبو عمر بن عبد البر: ليس دون عمرو بن شعيب من يحتج به. وأما حديثُه الآخر الذي رواه الدارقطنى، فعلى طريق الحديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصى، وهو متروك بإجماعهم، فالطريق به مقطوعة. وأما حديثُ عبد الرزاق، فمراسيلُ الزهرىِّ عندهم ضعيفة لا يُحْتَجُّ بها، وعَتَّابُ بنُ أسيد كان عاملاً للنبىِّ صلى الله عليه وسلم على مكة، ولم يكن بمكة يهودىٌ ولا نصرانى البتة حتى يُوصِيُه أن لا يلاعِنَ بينهما. قالوا: وأما ردُّكم لقوله: (لولا ما مضى من الأيمان، لكَانَ لى ولها شأن)، وهو حديث رواه أبو داود في سننه، وإسناده لا بأس به، وأما تعلُّقكم فيه على عبَّاد بن منصور، فأكثر ما عيب عليه أنه قدرىٌّ داعية إلى القدر، وهذا لا يوجب ردَّ حديثهِ، ففى الصحيح: الاحتجاجُ بجماعة مِنَ القدرِيَّة والمرجئة والشيعة ممن عُلِمَ صِدْقُه، ولا تنافى بينَ قوله: (لولا ما مَضَى مِن كتاب الله تعالى)، (ولولا ما مضى من الأيمان)، فيحتاج إلى ترجيح أحدِ اللفظين، وتقديمه على الآخر، بل الأيمان المذكورة هي في كتابِ الله، وكتابُ الله تعالى حكمُه الذي حكم به بين المتلاعنين، وأراد صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى مِن حكم اللَّهِ الذي فصلَ بين المتلاعنَين، لكان لها شأن آخر. قالوا: وأما قولُكم: إن قاعدةَ الشريعةِ استقرَّت على أن الشهادةَ في جانب المدَّعى، واليمين في جانب المدَّعَى عليه، فجوابه مِن وجوه، أحدها: أن الشريعةَ لم تستقِرَّ على هذا، بل قد استقرت في القَسامة بأن يبدأ بأيمان المدَّعينَ، وهذ لقوة جانبهم باللَّوْثِ، وقاعدةُ الشريعة أن اليمين تكون من جنبة أقوى المتداعيين، فلما كان جانبُ المدَّعى عليه قوياً بالبراءة الأصلية، شرعت اليمينُ في جانبه، فلما قوى جانبُ المدعى في القسامة باللوث كانت اليمينُ في جانبه، فيقال له: احلف واستحق، وهذا مِن كمال حكمة الشارع واقتضائه للمصالح بحسب الإمكان، ولو شرعت اليمينُ مِن جانب واحد دائماً، لذهبت قوةُ الجانب الراجح هدراً، وحكمة الشارع تأبى ذلك، فالذى جاء به هو غايةُ الحكمة والمصلحة. وإذا عُرِفَ هذا، فجانب الزوج ها هنا أقوى من جانبها، فإن المرأة تُنْكِرُ زناها، وتبهتُه، والزوجُ ليس له غرضٌ في هتك حرمته، وإفساد فراشه، ونسبة أهله إلى الفجور، بل ذلك أشوشُ عليه، وأكره شىء إليه، فكان هذا لوثاً ظاهراً، فإذا انضاف إليه نكولُ المرأة قوى الأمرُ جداً في قلوبِ الناسِ خاصِّهم وعامِّهم، فاستقلَّ ذلك بثبوت حكم الزنى عليها شرعاً، فحفدَّتْ بلعانه، ولكن لما تكن أيمانُه بمنزلة الشهداء الأربعة حقيقةً، كان لها أن تُعارِضَها بأيمان أخرى مثلِها يدرأ عنها بها العذابَ عذابَ الحدِّ المذكور في قوله تعالى: وهذا يتَّضِحُ بالفصل الثانى المستفاد من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن المرأةَ إذا لم تلتعِنْ، فهل تُحَدُّ أو تُحبَسُ حتى تُقِرَّ، أو تُلاعن؟ فيه قولان للفقهاء. فقال الشافعى، وجماعة من السلف والخلف: تُحَدُّ، وهو قولُ أهلِ الحجاز. وقال أحمد: تُحبسُ حتى تُقِرَّ أو تُلاعِنَ، وهو قولُ أهل العِراق. وعنه رواية ثانية: لا تحبَسُ ويُخلَّى سبيلُها. قال أهل العراق ومَنْ وافقهم: لو كان لِعانُ الرجل بينةً تُوجِبُ الحدَّ عليها، لم تملك إسقاطَه باللعانِ، وتكذيب البينة، كما لو شهد عليها أربعة. قالوا: ولأنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيرِه، لم تحد بهذه الشهادة، فلأن لا تُحدَّ بشهادته وحده أولى وأحرى. قالُوا: ولأنه أحدُ المتلاعنين، فلا يُوجِبُ حدَّ الآخر، كما لم يُوجب لِعانُها حدَّه. قالوا: وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (البَيِّنَةُ عَلى المُدَّعى). ولا ريب أن الزوج ها هنا مدَّع. قالوا: ولأن موجبَ لِعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجابَ الحد عليها، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: (البَيِّنَةُ وإلا حَدٌّ في ظَهْرِكَ)، فإن موجِبَ قذفِ الزوج، كموجِب قذفِ الأجنبى وهو الحدُّ، فجعل الله سبحانه له طريقاً إلى التخلص منه باللعان، وجعل طريق إقامة الحد على المرأة أحدَ أمرين: إما أربعة شهود، أو اعتراف، أو الحَبَلُ عند من يَحُدُّ به مِن الصحابة، كعمر بن الخطاب ومن وافقه، وقد قال عمر بن الخطاب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: والرجمُ واجِبٌ على كفِّ من زَنَى مِن الرجال والنساء إذا كان محصَناً إذا قامَت بينةٌ، أو كان الحَبَلُ، أو الاعترافُ، وكذلك قال علىٌّ رضى الله عنه، فجعلا طريق الحدِّ ثلاثة لم يجعلا فيها اللعان. قالوا: وأيضاً فهذه لم يتحقق زناها، فلا يجبُ عليها الحد، لأن تحقق زناها إما أن يكونُ بِلعان الزوج وحدَه، لأنه لو تحقق به، لم يسقُطْ بِلعانها الحدُّ، ولما وجب بعد ذلك حد على قاذفها، ولا يجوزُ أن يتحقق بنكُولها أيضاً، لأن الحدَّ لا يثبُت بالنكول، فإن الحدَّ يُدرأ بالشُّبهاتِ، فكيف يجب بالنكولِ، فإن النكولَ، يحتمل أن يكون لِشدة خَفَرِهَا، أو لعُقْلَةِ لِسانها، أو لِدهشها في ذلك المقام الفاضح المخزى، أو لغير ذلك من الأسباب، فكيف يثبتُ الحدُّ الذي اعُبِرَ في بينته من العدد ضعف ما اعتبر في سائر الحدود، وفى إقراره أربع مرات بالسنة الصحيحة الصريحة، واعتُبِرَ في كل من الإقرار والبينة أن يتضمَّن وصفَ الفعل والتصريح به مبالغة في الستر، ودفعاً لإثبات الحدِّ بأبلغ الطرق وآكِدها، وتوسلاً إلى إسقاط الحدِّ بأدنى شُبهة، فكيف يجوزُ أن يقضى فيه بالنكولِ الذي هو في نفسه شبهة لا يُقضي به في شىء من الحدود والعقوبات البتة ولا فيما عد الأموال؟ قالوا: والشافعى رحمه الله تعالى لا يرى القضاء بالنكول في درهم فما دونَه، ولا في أدنى تعزير، فكيف يُقضَى به في أعظم الأمور وأبعدِها ثبوتاً، وأسرعها سقوطاً، ولأنها لو أقرَّت بلسانها، ثم رجعت، لم يجب عليها الحدّ، فلأن لا يجب بمجرد امتناعها مِن اليمين على براءتها أولي، وإذا ظهر أنه لا تأثير لواحد منهما في تحقق زناها، لم يجز أن يُقال بتحققه بهما لوجهين. أحدهما: أن ما في كل واحد منهما من الشبهة لا يزول بضم أحدهما إلى الآخر، كشهادة مائة فاسق، فإن احتمالَ نكولها لفرط حيائها، وهيبة ذلك المقام، والجمع، وشدة الخَفَرِ، وعجزها عن النطق، وعُقلة لسانها لا يزولُ بلعان الزوج ولا بنكولها. الثانى: أن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق. قالوا: وأما قوله تعالى: ثم اختلف هؤلاء فيما يصنع بها إذا لم تُلاعِنْ، فقال أحمد: إذا أبت المرأة أن تلتعِنَ بعدًَ التعان الرجل، أجبرتُها عليه، وهِبْتُ أن أحْكُمَ عليها بالرجم، لأنها لو أقرت بلسانها، لم أرجمها إذا رجعت، فكيف إذا أبتِ اللعان؟ وعنه رحمه الله تعالى رواية ثانية: يخلى سبيلُها، اختارها أبو بكر، لأنها لا يجبُ عليها الحد، فيجب تخلية سبيلها، كما لو لم تكمل البينة. قال الموجبون للحدِّ: معلومٌ أن الله سبحانه وتعالى جعل التعانَ الزوج بدلاً عن الشهود، وقائماً مقامهم، بل جعل الأزواج الملتعنِينَ شهداءَ كما تقدَّم، وصرَّحَ بأن لِعانهم شهادةٌ، وأوضح ذلك بقوله: قالُوا: وقد جعل اللَّهُ سبحانه لِعانَ الزوج دارئاً لحدِّ القذف عنه، وجعل لِعانَ الزوجة دارئاً لعذاب حدِّ الزِّنى عنها، فكما أن الزوج إذا لم يُلاعن يُحدُّ حَدَّ القذف، فكذلك الزوجةُ إذا لم تُلاعن يجب عليها الحدُّ. قالُوا: وأما قولكم: إن لعانَ الزوج لو كان بيِّنة تُوجب الحدِّ عليها لم تملك هي إسقاطه باللعان، كشهادة الأجنبى. فالجواب: أن حكم اللَّعان حُكمٌ مستقلٌ بنفسه غيرُ مردود إلى أحكام الدعاوى والبيِّنات، بل هو أصل قائم بنفسه شَرَعَه الذي شرع نظيرَه مِن الأحكام، وفصَّله الذي فصَّل الحلالَ والحرام، ولما كان لِعانُ الزوج بدلاً عن الشهود لا جَرَمَ نزل عن مرتبة البينة، فلم يستقِلَّ وحدَه بحكم البينة، وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره، وحينئذ فلا يظهر ترجيحُ أحد اللعانين على الآخر لنا، واللَّه يعلم أن أحدهما كاذب، فلا وجه لحد المرأة بمجردِ لِعان الزوج، فإذا مُكنت من معارضته وإتيانها بما يُبرىء ساحتها، فلم تفعل، ونكلت عن ذلك، عَمِلَ المقتضى عمَله، وانضاف إليه قرينة قوَّته وأكَّدته، وهى نكولُ المرأة وإعراضُها عما يُخلِّصها مِن العذاب، وَيَدْرَؤُه عنها. قالوا: وأما قولُكم: إنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيره لم تُحَدَّ بهذه الشهادة، فكيف تُحدُّ بشهادته وحدَه؟ فجوابُه أنها لم تُحد بشهادة مجرَّدة، وإما حُدَّت بمجموع لِعانه خمسَ مرات، ونكولِها عن معارضته مع قدرتها عليها، فقامَ من مجموع ذلك دليل في غاية الظهور والقوة على صحة قوله، والظنُّ المستفاد منه أقوى بكثره من الظن المستفاد من شهادة الشهود. وأما قولُكم: إنه أحد اللعانين، فلا يُوجب حد الآخر، كما لم يُوجب لِعانُها حدَّه، فجوابه أن لِعانها إنما شرع للدفع، لا للإيجاب، كما قال تعالى: قالوا: وأما قولُكم: إن الصحابة جعلُوا حدَّ الزنى بأحد ثلاثة أشياء: إما البينة، أو الاعترافِ، أو الحَبَلِ، واللعانُ ليس منها، فجوابُه: أن منازعيكم يقولُون: إن كان إيجاب الحدِّ عليها باللعان خلافاً لأقوال هؤلاء الصحابة، فإن إسقاطَ الحدِّ بالحبل أدخلُ في خلافهم وأظهر، فما الذي سوَّغ لكم إسقاطَ حدٍّ أوجبوه بالحبل، وصريح مخالفتهم، وحرَّم على منازعيكم مخالفتَهم في إيجاب الحدِّ بغير هذه الثلاثة، مع أنهم أعذرُ منكم، لثلاثة أوجه. أحدُها: أنهم لم يُخالفوا صريحَ قولهم، وإنما هو مخالفة لمفهومٍ سكتُوا عنه، فهو مخالفة لسكوتهم، وأنتم خالفتهم صريح أقوالهم. الثانى: أن غاية ما خالفوه مفهومٌ قد خالفه صريحٌ عن جماعة منهم بإيجاب الحدِّ، فلم يُخالفوا ما أجمعَ عليه الصحابة، وأنتم خالفتُم منطوقاً، لا يُعْلَمُ لهم فيه مخالف البتة ها هنا، وهو إيجابُ الحدِّ بالحبل، فلا يُحفظ عن صحابى قطُّ مخالفة عمر وعلى رضى الله عنهما في إيجاب الحد به. الثالث: أنهم خالفوا هذا المفهومَ لمنطوق تلك الأدِلَّةِ التي تقدَّمت، ولمفهوم قوله: قالوا: وأما قولُكم: لَمْ يتحقق زِناها إلى آخره، فجوابُه إن أردتم بالتحقيق اليقينَ المقطوعَ به كالمحرمات، فهذا لا يُشترط في إقامة الحد، ولو كان هذا شرطاً، لما أقيمَ الحدُّ بشهادةِ أربعة، إذ شهادتُهم لا تجعلُ الزِّنى محققاً بهذا الاعتبار. وإن أردتُم بعدم التحقق أنه مشكوكٌ فيه على السواء، بحيث لا يترجّح ثبوته، فباطل قطعاً، وإلا لما وجب عليها العذابُ المدرَأُ بلعانها، ولا ريبَ أن التحقُّقَ المستفادَ مِن لعانه المؤكد المكرَّْر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه أقوى من التحقق بأربع شهود، ولعل لهم غرضاً في قذفها وهتكِها وإفسادها على زوجها، والزوجُ لا غرض له في ذلك منها. وقولكم: إنه لو تحقق، فإما أن يتحقق بلعانِ الزوج، أو بنكولها، أو بهما، فجوابُه: أنه تحقَّق بهما، ولا يلزم مِن عدم استقلال أحدِ الأمرين بالحدِّ وضعفه عنه عدمُ استقلالهما معاً، إذا هذا شأنُ كُلِّ مفرد لم يستقِلَّ بالحكم بنفسه، ويستقل به مع غيرِهِ لقوته به. وأما قولُكم: عجباً للشافعىِّ كيف لا يقضى بالنكول في درهم، ويقضى به في إقامة حدٍ بَالَغَ الشّرعُ في ستره، واعتبر له أكملَ بيِّنة، فهذا موضع لا يُنتصر فيه للشافعى ولا لغيره من الأئمة، وليس لِهذا وُضعَ كِتَابُنَا هذا، ولا قصدنا به نُصرَةَ أحدٍ من العالمين، وإنما قصدنا به مجرَّد هدى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وأقضيته وأحكامه، وما تضمَّن سوى ذلك، فتبع مقصودٌ لغيره، فهب أن من لم يقض بالنكول تناقض، فماذ يَضُرُّ ذلك هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عنه عَارُهَا. على أن الشَّافِعىَّ رَحمَه الله تعالى لم يتناقض، فإنه فرَّق بين نكولٍ مجرد لا قولة له، وبين نُكولٍ قد قارنَه التعان مؤكَّدٌ مكرَّرٌ أُقيم في حق الزوج مقامَ البينة مع شهادة الحال بكراهة الزوج، لزنى امرأته، وفضيحتها، وخراب بيتها، وإقامة نفسه وحِبه في ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين وخراب بيتها، وإقامة نفسه وحِبه في ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذباً بعد حلفه باللَّه جَهْدَ أيمانه أربعَ مرات إنه لمن الصادقين، والشافعى رحمه الله إنما حكم بنكول قد قارنه ما هذا شأنُه، فمن أين يلزمه أن يحكم بنكول مجرد؟ قالوا: وأما قولُكم: إنها أقرَّت بالزنى ثم رجعت، لسقط عنها الحدُّ، فكيف يجِبُ بمجرَّدِ امتناعِها من اليمين؟ فجوابه: ما تقرر آنفاً. قالوا: وأما قولُكم: إنَّ العذاب المُدْرَأَ عنها بلعانها هو عذابُ الحبس أو غيره، فجوابُه: أن العذابَ المذكورَ، إما عذابُ الدنيا، أو عذابُ الآخرة، وحملُ الآية على عذاب الآخرة باطل قطعاً، فإن لِعانها لا يدرؤه إذا وجب عليها، وإنما هو عذابُ الدنيا وهو الحدُّ قطعاً فإنه عذابُ المحدود، وهو فِداء له من عذابِ الآخرة، ولهذا شرعه سبحانه طُهرةً وفدية من ذلك العذاب، كيف وقد صرَّح به في أول السورة بقوله: فإن قيل: فلو نكل الزوج عن اللعان بعد قذفه، فما حكمُ نكولِهِ؟ قلنا: يُحَدُّ حدَّ القذفِ عند جمهور العلماءِ مِن السلف والخلف، وهو قولُ الشافعى ومالك وأحمد وأصحابهم، وخالف في ذلك أبو حنيفة وقال: يُحبس حتى يُلاعِنَ، أو تُقِرَّ الزوجة،. وهذا الخلاف مبنى على أن موجب قذفِ الزوج لامرأته هَل هو الحد، كقذف الأجنبى، وله إسقاطه باللعان، أو موجبه اللعان نفسه؟ فالأول: قول الجمهور. والثانى: قول أبو حنيفة، واحتجُّوا عليه بعموم قوله تعالى: ومنها: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنما كان يقضى بالوحي، وبما أراه اللَّهُ، لا بما رآه هو، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يَقْضِ بين المتلاعِنَيْن حتَّى جاءه الوحىُ، ونزل القرآن، فقال لِعويمر حينئذ: (قد نزل فيك وفى صاحبتك، فاذهب فأْتِ بها)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَسْأَلُنى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ سُنَّةٍ أَحْدَثْتُهَا فِيكُم لَمْ أُومَرْ بِهَا) وهذا في الأقضية، والأحكام، والسنن الكلية، وأما الأمور الجزئية التي لا تَرْجِعُ إلى أحكام، كالنزول في منزل معيَّن، وتأمير رجل معيَّن، ونحو ذلك مما هو متعلق بالمشاورةِ المأمورِ بها بقوله: ومنها: أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمره بأن يأتىَ بها، فتلاعنا بحضرته، فكان في هذا بيانُ أن اللعان إنما يكونُ بحضرةِ الإمام أو نائبة، وأنه ليس لآحادِ الرعية أن يُلاعِنَ بينهما، كما أنه ليس له إقامة الحد، بل هو للإمام أو نائبه. ومنها: أنُه يسن التلاعن بمحضر جماعةٍ من الناس يشهدُونه، فإن ابن عباس، وابن عمر، وسهل بن سعد، حضروه مع حداثة أسنانهم، فدلَّ ذلك على أنه حضره جمع كثير، فإن الصبيان إنما يحضرون مثلَ هذا الأمر تبعاً للرجال. قال سهل ابنُ سعد: فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبى صلى الله عليه وسلم. وحكمة هذا واللَّه أعلم ، أن اللعان بنى على التغليظ مبالغةً في الردع والزجر، وفعلُه في الجماعة أبلغُ في ذلك. ومنها: أنهما يتلاعنان قياماً، وفى قصة هلال بن أمية أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال له: (قم فاشهد أربع شهادات باللَّه). وفى (الصحيحين): في قصة المرأة، ثم قامت فشهدت، ولأنه إذا قام شاهده الحاضِرُون، فكان أبلغَ في شهرته، وأوقعَ في النفوس، وفيه سِر آخر، وهو أن الدعوة التي تُطلب إصابتُها إذا صادفت المدعوَّ عليه قائماً نفذت فيه، ولهذا لما دعا خُبيبٌ على المشركين حين صلبوه، أخذ أبو سفيان معاوية فأضجعَه، وكانوا يرون أن الرجل إذا لطىء بالأرض، زلَّت عنه الدعوة. ومنها: البداءة بالرجل في اللعان، كما بدأ اللَّهُ عز وجل ورسولُه به، فلو بدأت هي، لم يُعتدَّ بلعانها عند الجمهور، واعتدَّ به أبو حنيفة. وقد بدأ الله سبحانه في الحدِّ بذكر المرأة فقال: ومنها: وعظُ كلِّ واحد من المتلاعنين عند إرادة الشروع في اللعان، فيُوعظُ ويُذكَّر، ويقال له: عذاب الدنيا أهونُ مِن عذاب الآخرة، فإذا كان عند الخامسة، أُعِيدَ ذلك عليهما، كما صحت السنة بهذا وهذا. ومنها: أنه لا يُقبل من الرجل أقلُّ من خمس مرات، ولا من المرأة، ولا يُقبل منه إبدالُ اللعنة بالغضب والإبعاد والسُّخط، ولا منها إبدالُ الغضب باللعنة والإبعاد والسخط، بل يأتى كُلٌّ منهما بما قسم الله له من ذلك شرعاً وقدراً، وهذا أصحُّ القولين في مذهب أحمد ومالك وغيرهما. ومنها: أنه لا يفتقِرُ أن يزيد على الألفاظ المذكورة في القرآن والسنة شيئاً، بل لا يُستحب ذلك، فلا يحتاج أن يقول: أشهدُ باللَّه الذي لا إله إلا هُو عالم الغيب والشهادة الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، ونحو ذلك، بل يكفيه أن يقول: أشهد باللَّهِ إنى لمن الصادقين، وهى تقول: أشهد باللَّه إنَّه لمن الكاذبين، ولا يحتاجُ أن يقول: فيما رميتها به من الزنى، ولا أن تقول هي: إنه لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، ولا يُشترط أن يقول إذا ادَّعى الرؤية: رأيتُها تزنى كالمِروَدِ في المُكْحُلَةِ، ولا أصلَ لذلك في كتاب الله، ولا سنة رسوله، فإن الله سبحانه بعلمه وحكمته كفانا بما شرعه لنا وأمرنا به عن تكلُّف زيادة عليه. قال صاحب (الإفصاح) وهو يَحْيَى بن محمد بن هبيرة في (إفصاحه): مِن الفقهاء من اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين: فيما رميتها به من الزنى، واشترط في نفيها عن نفسها أن تقول: فيما رمانى به من الزنى. قال: ولا أراه يحتاج إليه، لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه، ولم يذكر هذا الاشتراط. وظاهر كلام أحمد، أنه لا يشترط ذكر الزنى في اللعان، فإن إسحاق بن منصور قال: قلت لأحمد: كيف يُلاعِنُ؟ قال: على ما في كتاب الله يقول أربعَ مراتٍ: أشهد باللَّه إنى فيما رميتُها به لمن الصادقين، ثم يقف عند الخامسة فيقول: لعنةُ اللَّهِ عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة مثلُ ذلك. ففى هذا النص أنه لا يُشترط أن يقول: من الزنى، ولا تقولُه هي، ولا يُشترط أن يقولَ عند الخامسة: فيما رميتُها به، وتقول هي: فيما رمانى به، والذين اشترطوا ذلك حجتهم أن قالوا: ربما نوى: إنى لمن الصادقين في شهادة التوحيد أو غيره مِن الخبر الصادق، ونوت: إنه لمن الكاذبين في شأن آخر، فإذا ذكرا ما رُميت به من الزنى، انتفى هذا التأويل. قال الآخرون: هب أنهما نويا ذلك، فإنهما لا ينتفعان بنيتهما، فإن الظالم لا ينفعُه تأويلُه، ويمينه على نية خصمه، ويمينُه بما أمر الله به إذا كان مجاهراً فيها بالباطل، والكذب موجبه عليه اللعنة أو الغضب، نوى ما ذكرتم، أو لم ينوه، فإنه لا يموّه على من يعلم السر وأخفى بمثل هذا. ومنها: أن الحمل ينتفى بلعانه، ولا يحتاجُ أن يقول: وما هذا الحملُ منى، ولا يحتاج أن يقول: وقد استبرأتُها، هذا قول أبى بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد، وقولُ بعضِ أصحاب مالك، وأهل الظاهر، وقال الشافعىُّ: يحتاجُ إلى ذِكر الولد، ولا تحتاجُ المرأة إلى ذِكره، وقال الخِرقى وغيرُه: يحتاجان إلى ذِكره، وقال القاضى: يشترط أن يقول: هذا الولد من زنى وليس هوَ مِنِّى. وهو قولُ الشافعى، وقول أبى بكر أصح الأقوال، وعليه تدل السنة الثابتة. فإن قيل: فقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما، أن النبى صلى الله عليه وسلم لاعن بَيْنَ رجل وامرأته، وانتفى من ولدها، ففرَّق بينهما، وألحقَ الولدَ بالمرأةِ. وفى حديث سهل بن سعد: وكانت حاملاً فأنكر حملَها. وقد حكم صلى الله عليه وسلم: (بأن الولد للفراش) وهذه كانت فِراشاً له حال كونها حاملاً، فالولُد له، فلا ينتفى عنه إلا بنفيه. قيل: هذا موضعُ تفصيل لا بُدَّ منه، وهو أن الحملَ إن كان سابقاً على ما رماها به، وعلم أنها زنت وهى حامل منه، فالولد له قطعاً، ولا ينتفى عنه بلعانه، ولا يَحِلُّ له أن ينفيَه عنه في اللعان، فإنها لما علقت به، كانت فراشاً له، وكان الحملُ لاحقاً به، فزناها لا يُزيل حكم لحوقه به، وإن لم يعلم حملَها حالَ زناها الذي قد قذفها به، فهذا ينظر فيه، فإن جاءت به لأقلَّ مِن ستة أشهر من الزنى الذي رماها به، فالولُد له، ولا ينتفى عنه بلعانه، وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى الذي رماها به، نظر، فإما أن يكون استبرأها قبل زناها، أو لم يستبرئها، فإن كان استبرأها، انتفى الولد عنه بمجرد اللعان، سواء نفاه، أو لم ينفه، ولا بُدَّ من ذِكره عند من يشترط ذِكره، وإن لم يستبرئها، فها هنا أمكن أن يكون الولُد منه، وأن يكون من الزانى، فإن نفاه في اللعان، انتفى، وإلا لحق به، لأنه أمكن كونُه منه ولم ينفه. فإن قيل: فالنبىُّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بعدَ اللعان، ونفى الولد بأنه إن جاء يُشْبِهُ الزوجَ صاحبَ الفراش فهو له، وإن جاء يُشبه الذي رميت به، فهو له، فما قولُكم في مثل هذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها، ثم جاء الولدُ يُشبه، هل تُلِحقُونه به بالشبه عملاً بالقافة، أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملاً بموجب لعانه؟ قيل: هذا مجال ضَنْكٌ، وموضع ضيِّق تجاذب أعِنَّتَه اللعانُ المقتضى لانقطاع النسب، وانتفاء الولد، وأنه يُدعى لأمه ولا يدعى لأب، والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزواج، وأنه ابنُه، مع شهادة النبىِّ صلى الله عليه وسلم بأنها إن جاءت به على شبهه، فالولدُ له، وأنه كذب عليها، فهذا مضيق لا يتخَلَّصُ منه إلا المستبصرُ البصير بأدلة الشرع وأسراره، والخبيرُ بجمعه وفرقه الذي سافرت به هِمَّتُه إلى مطلع الأحكام، والمشكاة التي منها ظهر الحلالُ والحرامُ، والذي يظهر في هذا، واللَّه المستعان وعليه التكلان، أن حكم اللعان قطع حكم الشبه، وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفهما، فلا عبرة للشبه بعد مضى حكم اللعان في تغيير أحكامه، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يُخِبرْ عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم اللعان، وإنما أخبر عنه، ليتبين الصادقُ منهما من الكاذب الذي قد استوجبَ اللعنة والغضب، فهو إخبار عن أمر قدرى كونى يتبين به الصادقُ مِن الكاذب بعد تقرر الحكم الدينى، وأن الله سبحانه سيجعل في الولد دليلاً على ذلك، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد انتفائِه من الود، وقال: (إن جاءت به كذا وكذا، فلا أراه إلا صدق عليها، وإن جاءت به كذا وكذا، فلا أراه إلا كذب عليها)، فجاءت به على النعتِ المكروه، فعلم أنه صَدَقَ عليها، ولم يَعْرِضْ لها، ولم يفسخ حكم اللعان، فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها، فكذلك لو جاءت به على شبه الزوج يعلم أنه كَذَبَ عليها، ولا يُغير ذلك حكم اللعان، فيحد الزوج ويلحق به الولد، فليس قوله: إن جاءت به كذا وكذا فهو الهلال بن أمية إلحاقاً له به في الحكم، كيف وقد نفاه باللعان، وانقطع نسبُه به، كما أن قوله: وإن جاءت به كذا وكذا، فهو للذى رميت به. ليس إلحاقاً به، وجعله ابنه، وإنما هو إخبارٌ عن الواقع، وهذا كما لو حكم بأيمان القَسَامَةِ ثمَ أظهر الله سبحانه آيةً تدل على كذب الحالفين، لم ينتقض حُكْمُها بذلك، وكذا لو حكم بالبراءة مِن الدعوى بيمين، ثم أظهر الله سبحانه آية تدل على أنها يمينٌ فاجرة، لم يبطل الحكم بذلك. ومنها: أن الرجلَ إذا قذف امرأَته بالزنى برجل بعينه، ثم لا عنها، سقطَ الحدُّ عنه لهما، ولا يحتاجُ إلى ذِكر الرجل في لعانه، وإن لم يُلاعن، فعليه لكل واحد منهما حَدُّه، وهذا موضعٌ اختُلِفَ فيه، فقال أبو حنيفة ومالك: يُلاعن للزوجة، ويحد للأجنبى، وقال الشافعى في أحد قوليه: يجب عليه حدٌّ واحد، ويسقط عنه الحَدُّ لهما بلعانه، وهو قولُ أحمد، والقول الثانى للشافعى: أنه يحد لِكل واحد حداً، فإن ذكر المقذوفَ في لِعانه، سقط الحدُّ، وإن لم يذكره فعلى قولين، أحدهما: يستأنِفُ اللعان، ويذكره فيه، فإن لم يذكره، حُدَّ له. والثانى: أنه يسقط حدُّه بلعانه، كما يسقط حدُّ الزوجة. وقال بعضُ أصحاب أحمد: القذفُ للزوجة وحدها، ولا يتعلَّق بغيرها حق المطالبة ولا الحد. وقال بعضُ أصحاب الشافعى: يجبُ الحدُّ لهما، وهل يجب حدٌّ أو حدَّانِ؟ على وجهينِ، وقال بعض أصحابه: لا يجب إلا حداً واحداً قولاً واحداً، ولا خلاف بين أصحابه أنه إذا لاعن الأجنبى في لعانه: أنه يسقط عنه حُكمُه، وإن لم يذكره، فعلى قولين: الصحيح عندهم: أنه لا يسقط. والذين أسقطوا حكم قذفِ الأجنبى باللعان، حجتُّهم ظاهرة وقوية جداً، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحد الزوج بشريك بن سحماء، وقد سماه صريحاً، وأجاب الآخرون عن هذا بجوابين: أحدهما: أن المقذوفَ كان يهودياً، ولا يجب الحدُّ بقذف الكافر. والثانى: أنه لم يُطالب به، وحدُّ القذف إنما يُقام بعد المطالبة. وأجاب الآخرون عن هذين الجوابين، وقالوا: قولُ من قال: إنه يهودى باطل، فإنه شريك بن عبدة وأمه سحماء، وهو حليفُ الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. قال عبد العزيز بن بزيزة في شرحه لأحكام عبد الحق: قد اختلفَ أهلُ العلم في شريك بن سحماء المقذوف، فقيل: إنه كان يهودياً وهو باطل، والصحيح: أنه شريك بن عدة حليف الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. وأما الجواب الثانى، فهو ينقلب حُجَّةَ عليكم، لأنه لما استقرَّ عنده أنه لا حق له في هذا القذف لم يطالِب به، ولم يتعرَّض له، وإلا كيف يسكت عن براءة عرضه، وله طريق إلى إظهارها بحدِّ قاذفة، والقوم كانُوا أشدَّ حميَّةً وأنَفَةً مِن ذلك؟ وقد تقدَّم أن اللعان أقيمَ مقام البينة للحاجة، وجعل بدلاً مِن الشهود الأربعة، ولهذا كان الصحيح أنه يُوجِبُ الحدَّ عليها إذا نكلت، فإذا كان بمنزلة الشهادة في أحد الطرفين كان بمنزلتها في الطرف الآخر، ومِن المحال أن تحدَّ المرأة باللعان إذا نَكَلَت، ثم يُحد القاذف حدَّ القذف وقد أقام البينة على صدق قوله، وكذلك إن جعلناه يميناً فإنها كما درأت عنه الحدَّ مِن طرف الزوجة، درأت عنه مِن طرف المقذوف، ولا فرق، لأن به حاجة إلى قذف الزانى لما أفسد عليه مِن فراشه، وربما يحتاجٌ إلى ذِكره ليستدل بشبه الولد له على صدق قاذفه، كما استدل النبىُّ صلى الله عليه وسلم على صِدق هلال بشبه الولد بشريك بن سحماء، فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم للزوج: (البينة وإلا حدّ في ظهرك)، ولم يقل: وإلا حَدَّانِ، هذا والمرأةُ لم تُطالِبْ بحدِّ القذف، فإن المطالبة شرطٌ في إقامة الحدِّ، لا في وجوبه، وهذا جواب آخر عن قولهم: إن شريكاً لم يُطالب بالحدِّ، فإن المرأةَ أيضاً لم تُطالب به، وقد قال له النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (البينةُ وإلا حَدُّ في ظهرك). فإن قيل: فما تقولون: لو قذف أجنبية بالزنى برجل سماه؟ فقال: زنى بكِ فلان، أو زنيتِ به؟ قيل: هاهنا يجب عليه حدانِ، لأنه قاذف لكل واحد منهما، ولم يأتِ بما يُسقط موجبَ قذفه، فوجبَ عليه حكمه، إذ ليس هنا بينة بالنسبة إلى أحدهما، ولا ما يقومُ مقامَها. ومنها: أنه إذا لاعنها وهى حامل، وانتفى مِن حملها، انتفى عنه، ولم يَحْتَجْ إلى أن يلاعن بعد وضعه كما دلت عليه السنةُ الصحيحةُ الصريحةُ، وهذا موضع اختلف فيه. فقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يُلاعن لِنفيه حتى تَضَعَ لاحتمال أن يكون رِيحاً فَتَنْفَشَّ، ولا يكون لِلعان حينئذ معنى، وهذا هو الذي ذكره الخِرقى في (مختصره)، فقال: وإن نفى الحمل في التعانه لم يَنْتَفِ عنه حتى بنفِيَه عند وضعها له ويُلاعن، وتبعه الأصحابُ على ذلك، وخالفهم أبو محمد المقدسى كما يأتى كلامُه. وقال جمهورُ أهل العلم: له أن يُلاعِنَ في حال الحمل اعتماداً على قصة هلال بن أمية، فإنها صريحةٌ صحيحه في اللعان حال الحمل، ونفى الولدِ في تلك الحال، وقد قال النبى: (إن جاءت به على صِفَةِ كذا وكَذَا، فلا أراه إلا قد صدق عليها ) الحديثَ. قال الشيخ في (المغنى): وقال مالك، والشافعى، وجماعة من أهل الحجاز: يَصِحُّ نفى الحمل، وينتفى عنه، محتجين بحديثِ هلال، وأنه نفى حملها، فنفاه عنه النبىُّ صلى الله عليه وسلم، وألحقه بالأمِّ، ولا خَفَاءَ أنه كان حملاً، ولهذا قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (انظروها، فإن جَاءَتْ به كذا وكذا)، قال: ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا تثبت للحامل أحكامٌ تُخالف فيها الحائلَ من النفقة والفِطر في الصيام، وتركِ إقامة الحدِّ عليها، وتأخيرِ القِصاص عنها، وغيرِ ذلك مما يطولُ ذِكُره، ويَصِحُّ استلحاقُ الحمل، فكان كالولد بعد وضعه قال: وهذا القولُ هو الصحيح، لموافقته ظواهر الأحاديث، وما خالف الحديثَ لا يُعبأ به كائناتً ما كان. وقال أبو بكر: ينتفى الولد يزوالِ الفراش، ولا يحتاجُ إلى ذِكره في اللعان احتجاجاً بظاهر الأحاديث، حيثَ لم ينقل نفىُ الحمل، ولا تعرض لنفيه. وأما مذهب أبى حنيفة رحمه الله، فإنه لا يَصِحُّ نفىُ الحمل واللعان عليه، فإن لاعنها حاملاً، ثم أتت بالولد، لزمه عنده، ولم يتمكن من نفيه أصلاً، لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، وهذه قد بانت بلعانها في حال حملها. قال المنازعون له: هذا فيه إلزامُه ولداً ليس منه، وسدُّ باب الانتفاء مِن أولاد الزنى، واللَّهُ سبحانه قد جعل له إلى ذلك طريقاً، فلا يجوز سَدُّها، قالوا: وإنما تعتبر الزوجية في الحال التي أضاف الزنى إليها فيها، لأن الولد الذي تأتى به يلحقُه، إذا لم ينفه، فيحتاج إلى نفيه، وهذِهِ كانت زوجتَه في تلك الحال، فملك نفىَ ولدها. وقال أبو يوسف. ومحمد: له أن ينفىَ الحمل بين الولادة إلى تمامِ أربعينَ ليلة منها. وقال عبد الملك بن الماجشُون: لا يُلاعن لنفى الحمل إلا أن ينفيَهُ ثانية بعد الولادة. وقال الشافعىُّ: إذا عَلِمَ بالحمل فأمكنه الحاكم مِن اللعان، فلم يلاعن، لم يكن له أن ينفيَهُ بعدُ. فإن قيل: فما تقولون: لو استحلق الحملَ، وقذفها بالزنى، فقال: هذا الولدُ منى وقد زنت، ما حُكمُ هذه المسألة؟ قيل: قد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاث أقوال: أحدها: أنه يُحَدُّ ويُلحق به الولدُ، ولا يُمكَّن من اللعان. والثانى: أنه يُلاعن، وينتفى الولد. والثالث: أنه يُلاعن للقذف، ويلحقه الولدُ، والثلاثة روايات عن مالِك، والمنصوص عن أحمد: أنه لا يَصِحُّ استلحاقُ الولد كما لا يصح نفيه،.قال أبو محمد: وإن استلحق الحمل، فمن قال: لا يَصِحُّ نفيه، قال: لا يصح استلحاقُه، وهو المنصوصُ عن أحمد. ومن أجاز نفيه، قال: يَصِحُّ استلحقاقُه، وهو مذهبُ الشافعى، لأنه محكومٌ بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث، فصح الإقرار به كالمولود، وإذا استلحقه، لم يملك نفيَه بعد ذلك، كما لو استلحقه بعد الوضع. ومن قال: لا يَصِحُّ استلحاقُه، قال: لو صح استلحاقُه، للزمه بترك نفيه كالمولود، ولا يلزمُه ذلك بالإجماع، وليس لِلشَّبَه أثرٌ في الإلحاق، بدليل حديثِ المُلاعنة، وذلك مختص بما بعدَ الوضع، فاختص صحة الإلحاق به، فعلى هذا لو استلحقه، ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك، فأما إن سكت عنه، فلم ينفه، ولم يستلحقه، لم يلزمه عند أحد علمنا قولَه، لأن تركه محتمل، لأنه لا يتحقَّقُ وجودُه إلا أن يُلاعنها، فإن أبا حنيفة ألزمه الولَد على ما أسلفناه. وقولُ ابن عباس: ففرَّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضي ألاَّ يُدعى ولدها لأب، ولا تُرمى، ومن رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضى أن لا بيتَ لها عليه ولا قوت، ومن أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها. وقولُ سهل: فكان ابنُها يُدعى إلى أمه، ثم جرت السنةُ أنه يرثها وترِث منه ما فرض الله لها. وقوله: مضت السنة في المتلاعنين أن يُفرَّقَ بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً. وقال الزهرى، عن سهل بن سعد: فرَّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقال: لا يجتمعان أبداً. وقول الزوج: يا رسولَ الله، مالى؟ قال: (لا مال لك، إن كُنْتَ صَدَقْتَ عليها، فهو بما استحللتَ مِن فرجها، وإن كنتَ كذبتَ عليها، فهو أبعدُ لك منها). فتضمنت هذه الجملةُ عشرةَ أحكام: الحكم الأول: التفريقُ بين المتلاعنين، وفى ذلك خمسة مذاهب. أحدها: أن الفرقةَ تحصلُ بمجرد القذفِ، هذا قولُ أبى عبيد، والجمهورُ خالفوه في ذلك، ثم اختلفوا. فقال جابر بن زيد، وعثمان البَتِّى، ومحمد بن أبى صُفرة، وطائفة من فُقهاء البصرة: لا يقع باللعان فرقةٌ البتة، وقال ابن أبى صفرة: اللعانُ لا يَقْطَعُ العِصمة، واحتجوا بأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يُنكِر عليه الطلاقَ بعد اللعانِ، بل هو أنشأ طلاقَها، ونزَّه نفسه أن يُمْسِكَ من قد اعترف بأنها زنت، أو أن يقومَ عليه دليل كذب بإمساكها، فجعل النبىُّ صلى الله عليه وسلم فِعلَه سنة، ونازع هؤلاء جمهور العلماء، وقالوا: اللعانُ يُوجِبُ الفرقة، ثم اختلفوا على ثلاثة مذاهب. أحدها: أنها تقع بمجرد لِعان الزوج وحدَه، وإن لم تلتعِن المرأة، وهذا القولُ مما تفرَّد به الشافعى، واحتج له بأنها فُرقة حاصلة بالقول، فحصلت بقول الزوج وحدَه كالطلاق. المذهب الثانى: أنها لا تحصلُ إلا بلعانهما جميعاً، فإذا تَمَّ لِعانهما، وقعت الفرقةُ، ولا يعتبر تفريقُ الحاكم، وهذا مذهبُ أحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها أبو بكر، وقولُ مالك وأهلِ الظاهر، واحتج لهذا القول بأن الشرعَ إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده، وإنما فرَّق النبىُّ صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمامِ اللعان منهما، فالقولُ بوقوع الفرقِة قبلَه مخالفٌ لمدلولِ السنة وفعل النبى صلى الله عليه وسلم، واحتجُّوا بأن لفظ اللعان لا يقتضى فُرقة، فإنه إما أيمان على زناها، وإما شهادة به، وكلاهما لا يقتضى فُرقة، وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمامِ لعانهما لِمصلحة ظاهرة، وهى أن اللَّهَ سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة، وجعل كلاً منهما سكناً للآخر، وقد زال هذا بالقذف، وأقامها مقام الخزى والعار والفضيحة، فإنه إن كان كاذباً فقد فضحها وبهتها، ورماها بالداء العُضال، ونكَّسَ رأسها ورؤوس قومها، وهتكها على رؤوس الأشهاد. وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه، وعرَّضته للفضيحة والخزى والعار بكونه زوجَ بغى، وتعليق ولد غيره عليه، فلا يحصلُ بعد هذا بينهما مِن المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوبٌ بالنكاح، فكان مِن محاسن شريعة الإسلام التفريقُ بينهما، والتحريمُ المؤبد على ما سنذكره، ولا يترتب هذا على بعض اللعان كما لا يترتَّبُ على بعض لعان الزوج. قالوا: ولأنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين، فلم يثبت بأيمان أحدهما، كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الاختلاف. المذهب الثالث: أن الفرقةَ لا تحصُل إلا بتمام لعانهما، وتفريق الحاكم، وهذا مذهبُ أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهى ظاهر كلام الخِرقى، فإنه قال: ومتى تلاعنا، وفرق الحاكمُ بينهما، لم يجتمعا أبداً. واحتج أصحابُ هذا القولِ بقول ابن عباس في حديثه: ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. وهذا يقتضى أن الفُرقة لم تتَحصُلْ قبله، واحتجوا بأن عويمراً قال: كذبتُ عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمُرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا حجةٌ مِن وجهين، أحدهما: أنه يقتضى إمكان إمساكها. والثانى: وقوع الطلاق، ولو حصلت الفرقةُ باللعان وحده، لما ثبت واحدٌ مِن الأمرين، وفى حديث سهل بن سعد: أنه طلقها ثلاثاً، فأنفذه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود. قال الموقعون للفُرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم: اللعان معنىً يقتضى التحريمَ المؤبَّد، كما سنذكره، فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع، قالوا: ولأن الفُرقة لو وقعت على تفريقِ الحاكم، لساغ تركُ التفريق إذا كرهه الزوجان، كالتفريق بالعيب والإعسار، قالوا: وقولُه: فرَّق النبى صلى الله عليه وسلم، يحتمل أموراً ثلاثة. أحدها: إنشاء الفرقة. والثانى: الإعلامُ بها. والثالث: إلزامُه بموجبها من الفرقة الحسية. وأما قوله: كذبت عليها إن أمسكتها، فهذا لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعاً، بل هو بادر إلى فراقها، وإن كان الأمر صائراً إلى ما بادر إليه، وأما طلاقُه ثلاثةً، فما زاد الفُرقة الواقعة إلا تأكيداً، فإنها حرمت عليه تحريماً مؤبَّداً، فالطلاقُ تأكيد لهذا التحريم، وكأنه قال: لا تَحِلُّ لى بعد هذا وأما إنفاذُ الطلاقِ عليه، فتقريرٌ لموجبه من التحريم، فإنها إذا لم تَحِل له باللعان أبداً، كان الطلاقُ الثلاث تأكيداً للتحريم الواقع باللعان، فهذا معنى إنفاذه، فلما لم ينكره عليه، وأَقرَّه على التكلم به وعلى موجبه، جعل هذا إنفاذاً من النبىِّ صلى الله عليه وسلم وسهل لم يحكِ لفظَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: وقع طلاقُك، وإنما شاهد القِصَّة، وعدمَ إنكار النبى صلى الله عليه وسلم للطلاق، فظن ذلك تنفيذاً، وهو صحيح بما ذكرنا من الاعتبار، واللَّه أعلم. الحكم الثانى: أن فرقة اللعان فسخ، وليست بطلاقٍ، وإلى هذا ذهب الشافعىُّ وأحمد، ومن قال بقولهما، واحتجوا بأنها فرقةٌ تُوجب تحريماً مؤبَّداً، فكانت فسخاً كفُرقة الرضاع، واحتجوا بأن اللعان ليس صريحاً في الطلاق، ولا نوى الزوجُ به الطلاَق، فلا يقع به الطلاقُ، قالوا: ولو كان اللعان صريحاً في الطلاق، أو كناية فيه، لوقع بمجرد لعان الزوج، ولم يتوقف على لِعان المرأة، قالوا: ولأنه لو كان طلاقاً، فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث، فكأن يكون رجعياً. قالوا: ولأنَّ الطلاقَ بيد الزوج، إن شاء طلقَ، وإن شاء أمسكَ، وهذا الفسخُ حاصِل بالشرع وبغير اختياره، قالوا: وإذا ثبت بالسنة وأقوالِ الصحابة، ودلالةِ القرآن، أن فرقة الخُلع ليست بطلاقٍ، بل هي فسخ مع كونها بتراضيهما، فكيف تكونُ فرقةُ اللعانِ طلاقاً؟. الحكم الثالث: أن هذه الفُرقة توجب تحريماً مؤبداً لا يجتمعان بعدها أبداً. قال الأوزاعى: حدثنا الزبيدى، حدثنا الزهرى، عن سهل بن سعد، فذكر قصة الملاعنين، وقال: ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: لا يجتمعان أبداً. وذكر البيهقى من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عمر، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً،.قال: وروينا عن على، وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم، قالا: مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبداً. قال: وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: يفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً وإلى هذا ذهب أحمد، والشافعى ومالك، والثورىُّ، وأبو عُبيد، وأبو يوسف. وعن أحمد رواية أخرى: أنه إن أكذب نفسه، حلَّت له، وعاد فِراشه بحاله، وهى رواية شاذة شذَّ بها حنبل عنه. قال أبو بكر: لا نعلَمُ أحداً رواها غيره، وقال صاحب (المغنى): وينبغى أن تُحمل هذه الرواية على ما إذا لم يُفّرق بينهما. فأما مع تفريقِ الحاكم بينهما، فلا وجهَ لبقاء النكاح بحاله. قلت: الروايةُ مطلقة، ولا أثر لتفريقِ الحاكم في دوام التحريم، فإن الفُرقة الواقعة بنفس اللعان أقوى من الفُرقة الحاصلة بتفريق الحاكم، فإذا كان إكذاب نفسه مؤثراً في تلك الفُرقة القوية، رافعاً للتحريم الناشىء منها، فلأن يُؤثِّرَ في الفُرقة التي هي دونها، ويرفعَ تحريمها أولى. وإنما قُلنا: إن الفرقة بنفس اللعان أقوى مِن الفرقةِ بتفريق الحاكم، لأن فُرقة اللعان تستنِدُ إلى حكم الله ورسوله، وسواءٌ رضى الحاكمُ والمتلاعِنانِ التفريقَ أو أَبَوْهُ، فهى فُرقة من الشارع بغير رِضى أحدٍ منهم ولا اختياره، بخلافِ فُرقة الحاكم فإنه إنما يفرق باختياره. وأيضاً فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه عليه، بخلاف ما إذا توقَّف على تفريق الحاكم، فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة، ولا كان له سلطانٌ عليها، وهذه الروايةُ هي مذهبُ سعيدِ بن المسيب، قال: فإن أكذب نفسَه، فهو خاطبٌ من الخُطَّاب، ومذهبُ أبى حنيفة ومحمد، وهذا على أصله اطرد، لأن فُرقة اللعان عنده طلاق. وقال سعيدُ بن جبير: إن أكذب نفسه، رُدَّت إليه ما دامت في العدة. والصحيح: القولُ الأوَّلُ الذي دلت عليه السنةُ الصحيحةُ الصريحةُ، وأقوالُ الصحابة رضى الله عنهم، وهو الذي تقتضيه حِكمةُ اللعان، ولا تقتضى سواه، فإن لعنة الله تعالى وغضَبه قد حَلَّ بأحدهما لا محالة، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم عند الخامسة: (إنها الموجِبَةُ)، أى الموجبة لهذا الوعيد، ونحن لا نعلم عينَ مَنْ حلَّت به يقيناً، ففرق بينهما خشيةَ أن يكونَ هو الملعونَ الذي قد وجبت عليه لعنةُ الله وباءَ بها، فيعلُو امرأةً غيرَ ملعونه، وحِكمة الشرع تأبى هذا، كما أبت أن يَعْلُوَ الكافِرُ مسلمة والزانى عفيفةً. فإن قيل: فهذا يوجب ألا يتزوج غيرَها لما ذكرتم بعينه؟ قيل: لا يُوجب ذلك، لأنا لم نتحقق أنه هو الملعون، وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك، وشككنا في عينه، فإذا اجتمعا، لزمه أحدُ الأمرين ولابد، إما هذا وإما إمساكُه ملعونةً مغضوباً عليها قد وجب عليها غضبُ الله، وباءت به، فأما إذا تزوَّجت بغيره، أو تزوَّج بغيرها، لم تتحقق هذه المفسدة فيهما. وأيضاً فإن النفرة الحاصلة من إساءة كُلِّ واحدٍ منهما إلى صاحبه لا تزولُ أبداً، فإن الرجل إن كان صادقاً عليها، فقد أشاعَ فاحِشتها، وفضحَها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزى، وحقق عليها الخزى والغضب، وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذباً، فقد أضافَ إلى ذلك بهتَها بهذه الفرية العظيمة، وإحراق قلبها بها والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الاشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله. وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها، وألزمته العارَ والفضيحة وأحوجتُه إلى هذا المقام المُخزى، فحصل لِكُلِّ واحدٍ منهما من صاحبه من النُّفرة والوحشة، وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملُهما أبداً، فاقتضت حِكمة مَنْ شَرْعُهُ كُلُّه حِكْمَةٌ ومصلحةٌ وعَدْلٌ ورحمةٌ تحتُّم الفرقة بينهما، وقطع الصحبة المتمحِّضةِ مفسدة. وأيضاً فإنه إذا كان كاذباً عليها، فلا ينبغى أن يُسلَّطَ على إمساكها مع ما صَنَعَ مِن القبيح إليها، وإن كان صادقاً، فلا ينبغى أن يُمسِكَهَا مع علمه بحالها، ويرضى لنفسه أن يكون زوجَ بغى. فإن قيل: فما تقولون: لو كانت أمة ثم اشتراها، هل يَحِلُّ له وطؤها بملك اليمين؟ قلنا: لا تَحِلُّ له لأنه تحريم مؤبَّد، فحرمت على مشتريها كالرضاع، ولأن المطلِّق ثلاثاً إذا اشترى مطلقته لم تَحِلَّ له قبل زوج وإصابة، فهاهنا أولى، لأن هذا التحريمَ مؤبد، وتحريم الطلاق غير مؤبد. الحكم الرابع: أنها لا يَسْقُطُ صداقُها بعد الدخول، فلا يَرجعُ به عليها، فإنه إن كان صادقاً، فقد استحلَّ من فرجها عوضَ الصداق، وإن كان كاذباً فأولى وأحرى. فإن قيل: فما تقولون: لو وقع اللعانُ قبلَ الدخول، هل تحكمون عليه بنصف المهر، أو تقولون: يسقط جملة؟ قيل: في ذلك قولانِ للعلماء، وهما روايتان عن أحمد مأخذهُما: أن الفُرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما أو منهما ومن أجنبى، كشرائها لزوجها قبل الدخول، فهل يسقط الصداقُ تغليباً لجانبها كما لو كانت مستقِلّضة بسبب الفُرقة أو نِصفُه تغليباً لجانبه، وأنه هو المشاركُ في سبب الإسقاط، والسيد الذي باعه متسبب إلى إسقاطه ببيعه إياها؟ فهذا الأصل فيه قولان. وكُلُّ فُرقة جاءت مِن قبل الزوج نصَّفَتِ الصداق كطلاقه، إلا فسخه لِعيبها، أو فواتِ شرطٍ شَرَطَه، فإنه يسقطُ كُلُّه، وإن كان هو الذي فسخ، لأن سبب الفسخ منها وهى الحاملة له عليه. ولو كانت الفرقُة بإسلامه، فهل يسقط عنه، أو تُنصفه؟ على روايتين فوجهُ إسقاطه، أنه فعل الواجب عليه، وهى الممتنعة من فعل ما يجبُ عليها، فهى المتسببة إلى إسقاط صداقها بامتناعها من الإسلام، ووجهُ التنصيفِ أن سبب الفسخ من جهته. فإن قيل: فما تقولون في الخلع: هل يُنصفه أو يُسقطه؟ قيل: إن قلنا: هو طلاق نَصَّفه، وإن قلنا: هو فسخ، فقال أصحابنا: فيه وجهان. أحدهما: كذلك تغليباً لجانبه. والثانى: يسقطه لأنه لم يستقل بسبب الفسخ، وعندى، أنه إن كان مع أجنبى نصفه وجهاً واحداً، وإن كان معها، ففيه وجهان. فإن قيل: فما تقولون: لو كانت الفُرقة بشرائه لِزوجته من سيدها: هل يُسقطه أو يُنصفه؟ قيل: فيه وجهان: أحدهما: يسقطه، لأن مستحق مهرها تسبَّب إلى إسقاطه ببيعها، والثانى: ينصِّفه لأن الزوج تسبب إليه بالشراء، وكُلُّ فرقة جاءت من قبلها كردتها، وإرضاعها من يفسَخُ إرضاعُه نِكَاحَها، وفسخها لإعسارِه أو عيبه فإنه يسقط مهرُها. فإن قيل: فقد قلتم: إن المرأة إذا فسخت لعيب في الزوج سقط مهرها، إذ الفُرقة من جهتها، وقلتم: إن الزوجَ إذا فسخ لِعيب في المرأة سقط أيضاً ولم تجعلوا الفسخَ من جهته فتنصفوه، كما جعلتموه لِفسخها لعيبه من جهتها، فأسقطتموه، فما الفرق؟ قيل: الفرقُ بينهما أنه إنما بذل المهر في مقابلة بُضع سليم من العيوب، فإذا لم يتبين كذلك، وفسخ، عاد إليها كما خرج منها، ولم يستوفه، ولا شيئاً منه، فلا يلزمه شىء من الصداق، كما أنها إذا فسخت لِعيبه لم تُسلم إليه المعقود عليه، ولا شيئاً منه، فلا تستحِقُّ عليه شيئاً من الصداق. الحكم الخامس: أنها لا نفقةَ لها عليه ولا سكنى، كما قضى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهذا موافق لحكمه في المبتوتة التي لا رجعةَ لزوجها عليها، كما سيأتى بيانُ حكمه في ذلك، وأنه موافقٌ لكتاب الله، لا مخالف له، بل سقوطُ النفقة والسكنى للملاعنة أولى مِن سقوطها للمبتوتة، لأن المبتوتَة له سبيلُ إلى أن ينكِحهَا في عِدتها، وهذهِ لا سبيل له إلى نكاحها لا في العدة ولا بعدَها، فلا وجه أصلاً لوجوب نفقتها وسُكناها، وقد انقطعت العصمةُ انقطاعاً كلياً. فأقضيتُه صلى الله عليه وسلم يُوافِقُ بعضُها بعضاً، وكلها تُوافق كتابَ الله والميزانَ الذي أنزل ليقومَ الناسُ بالقسط، وهو القياسُ الصحيحُ، كما ستقر عينُك إن شاء الله تعالى بالوقوف عليه عن قريب وقال مالك، والشافعي: لها السكنى. وأنكر القاضى إسماعيل بن إسحاق هذا القول إنكاراً شديداً. وقوله: (من أحل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها) لا يدل مفهومه على أن كل مطلقة، ومتوفى عنها لها النفقةُ والسكنى، وإنما يدل على أن هاتين الفُرقتين قد يجبُ معهما نفقة وسكنى، وذلك إذا كانت المرأة حاملاً، فلها ذلك في فرقة الطلاق اتفاقاً، وفى فرقة الموت ثلاثة أقوال، أحدها: أنه لا نفقة لها ولا سكنى، كما لو كانت حائلاً، وهذا مذهبُ أبى حنيفة وأحمد في إحدى روايتيه، والشافعى في أحد قوله، لزوال سبب النفقة بالموت على وجه لا يُرجى عودهُ، فلم يبق إلا نفقةُ قريب، فهى في مال الطفل إن كان له مال، وإلا فعلى من تلزمه نفقته من أقاربه. والثانى: أن لها النفقة والسكنى في تركته تُقدم بها على الميراث، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، لأن انقطاع العصمة بالموت لا يزيد على انقطاعها بالطلاق البائن، بل انقطاعها بالطلاق أشد، ولهذا تغسلُ المرأةُ زوجَها بعد موته عند جمهور العلماء حتى المطلقة الرجعية عند أحمد ومالك في إحدى الروايتين عنه، فإذا وجبت النفقةُ والسُّكنى للبائن الحامل، فوجوبُها للمتوفى عنها زوجها أولى وأحرى. والثالث: أن لها السكنى دون النفقة حاملاً كانت أو حائلاً، وهذا قولُ مالك وأحدُ قولى الشافعى إجراء لها مجرى المبتوتة في الصحة، وليس هذا موضعَ بسطِ هذه المسائل وذكر أدلتها، والتمييز بين راجحها ومرجوحها إذ المقصود أن قوله: (من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها) إنما يدل على أن المطلقة والمتوفى عنها قد يجب لهما القوتُ والبيتُ في الجملة، فهذا إن كان هذا الكلام مِن كلام الصحابى، والظاهر واللَّه أعلم أنهُ مُدْرَجٌ مِن قول الزهرى. الحكم السادس: انقطاعُ نسب الولد من جهة الأب، لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى ألا يدعى ولدُها لأب، وهذا هو الحقُّ، وهو قولُ الجمهور، وهو أجلُّ فوائد اللعان، وشذ بعضُ أهل العلم، وقال: المولود للفراش لا ينفيه اللعانُ البتة، لأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد لِلفراش، وإنما ينفى اللعانُ الحمل، فإن لم يُلاعنها حتى ولدت، لاعن لإسقاط الحد فقط، ولا ينتفى ولدُها منه، وهذا مذهبُ أبى محمد بن حزم، واحتج عليه بأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد لصاحب الفراش، قال: فصح أن كل مَنْ وُلِدَ على فراشه ولد، فهو ولدُه إلا حيثُ نفاه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس ولده، ولم ينفه صلى الله عليه وسلم إلا وهى حامل باللعان فقط، فبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب، قال: ولذلك قلنا: إن صدقته في أن الحمل ليس منه، فإن تصديقها له لا يُلتفت إليه لأن الله تعالى يقول: وهذا ضد مذهبِ من يقول: إنه لا يصح اللعان على الحمل حتى تضع، كما يقول أحمد وأبو حنيفة، والصحيح: صحتُه على الحمل، وعلى الولد بعد وضعه، كما قاله مالك والشافعى، فالأقوال ثلاثة. ولا تنافى بين هذا الحكم وبين الحكم بكون الولد للفراش بوجه ما، فإن الفراش قد زال باللعان، وإنما حكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأن الولدَ للفراش عند تعارض الفراش، ودعوى الزانى، فأبطل دعوى الزانى للولد وحكم به لصاحب الفراش، وهاهنا صاحبُ الفراش قد نفى الولَد عنه. فإن قيل: فما تقولون: لو لاعن لمجرد نفى الولد مع قيام الفراش، فقال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولدُ ولدى؟ قيل: في ذلك قولان للشافعى، وهما روايتان منصوصتان عن أحمد. إحداهما: أنه لا لِعان بينهما، ويلزمه الولدُ، وهى اختيار الخرقى. والثانية: أن له أن يُلاعِنَ لنفى الولد، فينتفى عنه بلعانه وحده، وهى اختيارُ أبى البركات ابن تيمية، وهى الصحيحة. فإن قيل: فخالفتم حكمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الولد للفراش) قلنا: معاذ الله، بل وافقنا أحكامَه حيث وقع غيرُنا في خلاف بعضها تأويلاً، فإنه إنما حكم بالولد للفراش حيث ادعاه صاحبُ الفراش، فرجح دعواه بالفراش، وجعله له، وحكم بنفيه عن صاحب الفراش حيث نفاه عن نفسه، وقطع نسبه منه، وقضى ألاَّ يُدعى لأب، فوافقنا الحكمين، وقلنا بالأمرين، ولم نفرق تفريقاً بارداً جداً سمجاً لا أثر لَهُ في نفى الولد حملاً ونفيه مولوداً، فإن الشريعة لا تأتى على هذا الفرق الصُّورى الذي لا معنى تحته البتة، وإنما يرتضى هذا مَنْ قَلَّ نصيبه مِن ذوق الفقه وأسرارِ الشريعةِ وحِكمِهَا ومعانِيها، واللَّه المستعان، وبه التوفيق. الحكم السابع: إلحاقُ الولد بأمِّه عند انقطاع نسبه مِن جهة أبيه، وهذا الإلحاق يُفيد حكماً زائداً على إلحاقه بها مع ثبوت نسبه من الأب، وإلا كان عديمَ الفائدة فإن خروجَ الولدِ منها أمر محقق، فلابد في الإلحاق من أمر زائد عليه، وعلى ما كان حاصلاً مع ثبوتِ النسب من الأب، وقد اختُلفَ في ذلك. فقالت طائفة: أفادَ هذا الإلحاق قطعَ توهمِ انقطاعِ نسبِ الولد من الأم، كما انقطعَ مِن الأب، وأنه لا يُنسب إلى أمِّ، ولا إلى أبٍ، فقطع النبىُّ صلى الله عليه وسلم هذا الوَهم وألحق بالأم، وأكَّدَ هذا بإِيجابه الحدَّ على من قذفه أو قذفَ أمه، وهذا قول الشافعى ومالك، وأبى حنيفة، وكُل من لا يرى أن أمه وعصباتها له. وقالت طائفة ثانية: بل أفادنا هذا الإلحاق فائدةً زائدة، وهى تحويلُ النسب الذي كان إلى أبيه إلى أمه، وجعل أمَّه قائمةً مقام أبيه في ذلك، فهى عصبتُه وعصباتُها أيضاً عصبته، فإذا مات، حازَت ميراثَهُ، وهذا قولُ ابن مسعود، ويُروى عن على، وهذا القولُ هو الصواب، لما روى أهل السنن الأربعة، من حديث واثلة بن الأسقع، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تَحُوزُ المَرْأَةُ ثَلاثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقها، ولَقِيطَها، وَوَلَدَها الذي لاَعَنَتْ عَلَيْهِ)، ورواه الإمام أحمد وذهب إليه. وروى أبو داود في (سننه): من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنه جعل مِيرَاثَ ابن المُلاَعَنَةِ لأمَّه ولِورثِتهَا مِنْ بَعْدِهَا. وفى السنن أيضاً مرسلاً: من حديث مكحول، قال: جعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ميراثَ ابنِ المُلاَعَنَةِ لأُمِّه ولوِرثِتها مِنْ بَعْدِهَا. وهذه الآثارُ موافقة لمحضِ القياس، فإن النسَب في الأصل للأب، فإذا انقطع مِن جهته صار للأم، كما أن الولاء في الأصل لمعتق الأب، فإذا كان الأب رقيقاً كان لمعتق الأم. فلو أعتق الأبُ بعد هذا، انجز الولاءُ مِن موالى الأم إليه، ورجع إلى أصله، وهو نظيرُ ما إذا كذب الملاعن نفسه، واستلحق الولد، رجع النسبُ والتعصيب من الأم وعصبتها إليه. فهذا محضُ القياس، وموجبُ الأحاديث والآثار، وهو مذهبُ حَبْرِ الأمة وعالمِها عبد اللَّهِ بن مسعود، ومذهبُ إمامى أهل الأرض في زمانهما، أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعليه يَدُلُّ القرآن بألطف إِيماء وأحسنه، فإن الله سبحانه جعل عيسى مِن ذرية إبراهيم بواسطة مريم أمِّه، وهَى مِن صَميم ذرية إبراهيم، وسيأتى مزيدُ تقرير لهذا عند ذكر أقضيةِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم وأحكامه في الفرائض إن شاء الله تعالى. فإن قيل: فما تصنعون بقوله في حديث سهل الذي رواه مسلم في (صحيحه) في قصة اللعان: وفى آخره: ثم جرت السنةُ أن يِرَثَ مِنْهَا وتَرِثَ منه ما فرضَ الله لها؟ قيل: نتلقاه بالقبول والتسليم والقول بموجبه، وإن أمكن أن يكون مدرجاً من كلام ابن شهاب وهو الظاهِرُ، فإن تعصيبَ الأم لا يُسقط ما فرض الله لها من ولدها في كتابه، وغايتُها أن تكونَ كالأب حيث يجتمع له الفرض والتعصيب، فهى تأخذ فرضها ولابُدَّ فإن فصل شىءٌ أخذته بالتعصيب، وإلا فازت بفرضها، فنحن قائلون بالآثار كُلِّها في هذا الباب بحمد الله وتوفيقه. الحكمُ الثامن: (أنها لا تُرمى ولا يُرمى ولدُها، ومَنْ رماها أو رَمَى ولَدَها، فعليه الحَدُّ) وهذا لأن لِعانها نفى عنها تحقيقَ ما رُمِيَتْ به، فيُحدُّ قاذِفُها وقاذِفُ ولدها، هذا الذي دلَّت عليهِ السّنةُ الصحيحةُ الصريحةُ، وهو قولُ جمهور الأمة، وقال أبو حنيفة: إن لم يكن هناك ولد نُفِىَ نسبُه، حُدَّ قاذفها، وإن كان هناك ولد نُفى نسبه، لم يُحَدَّ قاذفها، والحديثُ إنما هو فيمن لها ولد نفاه الزوجُ، والذي أوجب له هذا الفرقَ أنه متى نَفَى نسب ولدها، فقد حكم بزناها بالنسبة إلى الولد فأثر ذلك شبهةً في سقُوط حدِّ القذف. الحكم التاسع: أن هذه الأحكام إنما ترتبت على لِعانهما معاً، وبعد أن تَمَّ اللعانانِ، فلا يترتب شىء منها على لِعان الزوج وحده، وقد خرَّج أبو البركات ابن تيمية على هذا المذهب انتفاء الولد بلعان الزوج وحدَه، وهو تخريجٌ صحيح، فإن لِعانه كما أفاد سقوطَ الحد وعارَ القذف عنه مِن غير اعتبار لعانها، أفاد سقوطَ النسب الفاسد عنه، وإن لم تُلاعن هي، بطريق الأولى، فإنَّ تضرره بدخول النسب الفاسِد عليه أعظمُ مِن تضرره بحدِّ القذف، وحاجته إلى نفيه عنه أشدُّ مِن حاجته إلى دفعِ الحد، فلِعانه كما استقلَّ بدفعِ الحد استقلَّ بنفى الولد، واللَّه أعلم. الحكم العاشِرُ: وجوبُ النفقة والسكنى للمطلقة والمتوفَّى عنها إذا كانتا حامِلَين فإنه قال: (من أجل أنهما يفترقان عن غير طلاق ولا متوفى عنها)، فأفاد ذلك أمريْنِ، أحدهما: سقوطُ نفقة البائن وسكناها إذا لم تكن حامِلاً مِن الزوج. والثانى: وجوبهُما لها، وللمتوفَّى عنها إِذا كانتا حاملَين من الزوج. وقولُه صلى الله عليه وسلم: (أَبْصِروُها فَإِنْ جَاءَت بِهِ كَذا وكذا، فَهُوَ لِهِلالِ بن أُميَّة، وإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذا وكَذا فهُو لِشَرِيكِ بن سَحْمَاء)، إِرشادٌ منه صلى الله عليه وسلم إلى اعتبارِ الحُكْم بالقَافَةِ، وأَنّ لِلشَّبَهِ مدخلاً في معرفة النسب، وإلحاقِ الولد بمنزلة الشبه، وإنما لم يُلحق بالملاعن لو قُدِّر أن الشبهَ له، لمعارضة اللعان الذي هو أقوى مِن الشبه له كما تقدم. وقوله في الحديث: (لَوْ أنّ رجلاً وَجَدَ مع امرأتِهِ رجلاً يقتُلُه فتقتُلُونه به) دليل على أن من قتل رجلاً في داره، وادَّعى أنه وجده مع امرأتِه أو حريِمه، قتل فيه ولا يُقبل قوله، إذ لو قُبِلَ قولُه، لأُهدِرَتِ الدماءُ، وكان كل من أراد قتلَ رجل أدخله دارَه، وادعى أنه وجده مع امرأته. ولكن هاهنا مسألتان يجب التفريقُ بينهما. إحداهما: هل يسعه فيما بينه وبين الله تعالى أن يقتُلَه، أم لا؟ والثانية: هل يُقبل قوله في ظاهر الحكم أم لا؟ وبهذا التفريق يزولُ الإِشكالُ فيما نُقلَ عن الصحابة رضى الله عنهم في ذلك، حتى جعلها بعض العلماء مسألَة نزاع بين الصحابة، وقالوا: مذهب عمر رضى الله عنه: أنه لا يُقتل به، ومذهب على: أنه يُقتل به، والذي غره ما رواه سعيدُ بن منصور في (سننه)، أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بينا هو يوماً يتغدى، إذ جاءه رجلٌ يعدو وفى يده سيف ملطخ بدم، ووراءه قوم يعدون، فجاء حتى جلسَ مع عمر، فجاء الآخرون، فقالوا يا أميرَ المؤمنين: إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر رضى الله عنه: ما تقول؟ فقال له: يا أميرَ المؤمنين، إنى ضربت بين فخذى امرأتى، فإن كان بينَهما أحد فقد قتلتُه، فقال عمر ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه ضرَب بالسَّيْفِ، فوقع في وسط الرجل وفخذى المرأة، فأخذ عمرُ رضى الله عنه سيفَه فهزّه، ثم دفعه إليه، وقال: إن عادوا، فعد. فهذا ما نُقِل عن عُمر رضى الله عنه. وأما على، فسُئِلَ عمن وَجَدَ مع امرأته رجلاً فقتله، فقال: إن لم يأتِ بأربعةِ شُهداء، فليُعْطَ بِرُمَّتِهِ، فظن أن هذا خلافُ المنقول عن عمر، فجعلها مسألةَ خلافٍ بينَ الصحابة، وأنتَ إِذا تأملتَ حُكميهما، لم تَجِدْ بينهما اختلافاً، فإن عمر إنما أسقط عنه القودَ لما اعترف الولىُّ بأنه كان مع امرأته، وقد قال أصحابنا واللفظ لصاحب (المغنى): فإن اعترفَ الولىُّ بذلك، فلا قِصاصَ ولا دِية، لما رُوى عن عمر، ثم ساق القِصة، وكلامه يُعطى أنه لا فرق بين أن يكون محصناً وغيرَ محصن، وكذلك حكمُ عمر في هذا القتيل، وقولُه أيضاً: (فإن عادوا فعد) ولم يفرق بين المحصَن وغيره، وهذا هو الصوابُ، وإن كان صاحب (المستوعب) قد قال: وإن وجد مع امرأته رجلاً ينال منها ما يُوجب الرجم، فقتله، وادّعى أنه قتله لأجل ذلك، فعليه القصاصُ في ظاهر الحكم، إلاَّ أن يأتىَ بينِّة بدعواه، فلا يلزمه القصاصُ، قال: وفى عدد البينة روايتان، إحداهما: شاهدان، اختارها أبو بكر لأن البينة على الوجود لا على الزنى، والأخرى لا يُقبل أقلُّ مِن أربعة، والصحيح أن البينة متى قامت بذلك، أو أقرَّ به الولىُّ، سقط القصاص محصناً كان أو غيره وعليه يدل كلام على، فإنه قال فيمن وجد مع امرأته رجلاً فقتله: إن لم يأت بأربعة شهداء فليُعْطَ بِرُمَّتِهِ) وهذا لأن هذا القتل ليس بحد للزنى، ولو كان حداً لما كان بالسيف ولاعتُبِرَ له شروطُ إقامة الحد وكيفيته، وإنما هو عقوبةٌ لمن تعدَّى عليه، وهتك حريمَه، وأفسد أهلَه، وكذلك فعل الزبير رضى الله عنه لما تخلف عن الجيش ومعه جارية له، فأتاه رجلان فقالا: أعطنا شيئاً، فأعطاهما طعاماً كان معه، فقالا: خلِّ عن الجارية، فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة وكذلك من اطَّلَعَ في بيت قومٍ من ثُقب، أو شق في الباب بغير إذنهم، فنظر حرمة أو عورة، فلهم خذفه وطعنه في عينه، فإن انقلعت عينُه، فلا ضَمان عليهم. قال القاضى أبو يعلى: هذا ظاهرُ كلام أحمد أنهم يدفعونه، ولا ضمان عليهم من غير تفصيل. وفصل ابن حامد فقال: يدفعه بالأسهل، فيبدأ بقوله: انصرف واذهب، وإلا نفعل بك كذا. قلت: وليس في كلام أحمد، ولا في السنة الصحيحة ما يقتضى هذا التفصيلَ بل الأحاديث الصحيحة تدل على خلافه، فإن في (الصحيحين) عن أنس، أن رجلاً أطلع مِن جُحر في بعض حُجر النبى صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمِشْقًص أو بمشَاقِص، وجعل يَخْتِلُه ليطْعُنَه، فأين الدفعُ بالأسهل وهو صلى الله عليه وسلم يختِلُه، أو يختبىء له، ويختفى لِيَطْعُنَه. وفى (الصحيحين) أيضاً: من حديث سهل بن سعد، أن رجلاً اطلع في جُحْر في باب النبىّ صلى الله عليه وسلم، وفى يد النبىِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرَىً يَحُكُّ بِهِ رَأْسَه، فلمَّا رآهُ قال: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تنظُرنى لَطَعَنْتُ به في عَيْنِك، إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ أَجْلِ البَصَر). وفيهما أيضاً: عن أبى هُريرة رضى الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لَوْ أَنَّ امْرءاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ). وفيهما أيضاً: (مَنْ اطَّلَعَ في بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَفَقؤوا عَيْنَهُ فَلاَ دِيَةَ لَهُ وَلاَ قِصَاصَ). وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: ليس هذا مِن بابِ دفعِ الصائل، بل مِن باب عقوبةِ المعتدى المؤذى، وعلى هذا فيجوزُ له فيما بينَه وبين الله تعالى قتلُ من اعتدى على حريمِه، سواء كان محصَناً أو غيرَ محصن، معروفاً بذلك أو غيرَ معروف، كما دل عليه كلام الأصحاب، وفتاوى الصحابة، وقد قال الشافعى وأبو ثور: يسعُه قتلُه فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان الزانى محصناً، جعلاه من باب الحدود. وقال أحمد وإسحاق: يُهدَرُ دمُه إذا جاء بشاهدين ولم يُفصِّلا بين المحصن وغيره. واخْتلّفَ قولُ مالك في هذه المسألة، فقال ابنُ حبيب: إن كان المقتولُ محصناً، وأقام الزوجُ البينة، فلا شىء عليه، وإلا قُتِل به، وقال ابنُ القاسم: إذا قامت البينةُ فالمحصَنُ وغيرُ المحصَنِ سواء، ويُهدر دمه، واستحب ابنُ القاسم الديةَ في غير المحصَن. فإن قيل: فما تقولون في الحديث المتفق على صحته، عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن سعد بن عبادة رضى الله عنه قال: يا رسولَ الله: أرأيتَ الرجلَ يَجِدُ مع امرأته رجلاً أيقتُلُه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا)، فقال سَعْدٌ: بَلَى والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ، فقال رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: (اسْمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سًيِّدُكُم). وفى اللفظ الآخر: (إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امرأتِى رَجُلاً أُمْهِلُهُ حَتَّى آتى بأَرْبَعَةِ شُهَدَاء؟ قال: (نعم) قال: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ إِنْ كُنْتُ لأُعَاجِلُهُ بالسَّيْفِ قَبْلَ ذلِكَ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (اسْمَعُوا إِلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم إِنَّهُ لَغَيُورٌ وأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، واللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى؟). قلنا:نتلقاه بالقبول والتسليم، والقول بموجبه، وآخِرُ الحديث دليل على أنه لو قتله لم يُقد به، لأنه قال: بلى والذي أكرمَكَ بالحق، ولو وجب عليه القصاصُ بقتله، لما أقره على هذا الحلف، ولما أثنى على غَيْرَته، ولقال: لو قتلَته قُتِلتَ به وحديث أبى هريرة صريحٌ في هذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَة سَعْدٍ فَوَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ واللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى)، ولم ينكر عليه، ولا نهاه عن قِتله لأن قولَه صلى الله عليه وسلم حُكم ملزم، وكذلكَ فتواه حكم عام للأمة، فلو أذن له في قتله، لكان ذلك حكماً منه بأن دمه هدرٌ في ظاهر الشرع وباطنه، ووقعت المفسدةُ التي درأها اللَّهُ بالقِصاص، وتهالك الناس في قتل من يريدون قتله في دورهم، ويدَّعونَ أنهم كانُوا يَرَوْنَهُم على حريمهم، فسدَّ الذَّرِيعَةَ، وحَمى المفسدَة، وصان الدماء، وفى ذلك دليل على أنه يُقبل القاتل، ويُقاد به في ظاهر الشرع، فلما حلف سعد أنه يقتلُه ولا ينتظر به الشهود، عَجِبَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم من غَيْرَتِه، وأخبر أنه غَيُورٌ، وأنه صلى الله عليه وسلم أغيرُ منه، واللَّهُ أشدُّ غَيرةً، وهذا يحتمِلُ معنيين. أحدهما: إقراره وسكوُته على ما حلف عليه سعدٌ أنه جائز له فيما بينَه وبَيْنَ اللَّهِ، ونهيه عن قتله في ظاهر الشرع، ولا يناقض أولُ الحديث آخِرَه. والثانى: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك كالمنكِرِ على سعد، فقال: (أَلاَ تَسْمَعُونَ إلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم) يعنى: أنا أنهاه عن قتلِه وهو يقُول: بلى، والذي أكرمك بالحق، ثم أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة، وأنه شِدَّةُ غَيْرَتِه، ثم قال: أنا أغيرُ مِنْهُ، واللَّه أغيرُ منى. وقد شرع إِقامة الشهداء الأربعة مع شِدَّةِ غيرته سبحانه، فهى مقرونةٌ بحكمة ومصلحة، ورحمة وإحسان، فاللَّه سبحانه مع شدّة غَيرته أعلم بمصالح عباده، وما شرعه لهم من إقامة الشهود الأربعة دون المبادرة إلى القتل، وأنا أغيرُ من سعد، وقد نهيته عن قتله، وقد يُريد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين، وهو الأليقُ بكلامه وسياق القصة.
|